أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات كلية أصول الدين، جامعة عبد المالك السعدي/تطوان
عروبة الإخباري –
يقصد بالثقافة بمفهومها العام ما تسرب إلى ذاكرة المجتمع من أفكار وممارسات ثقافية وحضارية تبلورت عبر التاريخ لتُشكل إرثا متراكما ينتقل من جيل إلى جيل، وتجعله عنوانا رئيسيا لهويتها، ومُبررا أساسيا لوجودها. وقد اتسع هذا المفهوم في العصر الحاضر ليشمل كثيرا من ميادين الحياة. والثقافة العربيّة من أهمّ وأغنى الثقافات على صعيد العالم، نظرا لقدمها فهي تعود إلى ما قبل ظهور الإسلام، وتتميز بوجودها في بلدان مختلفة. وهناك إجماع على أن الثقافة العربية في العصر الحديث قد تزعزعت وضعيتها الرمزية والاعتبارية. وذلك مقارنة بالقرن الماضي حيث كانت تعيش أوج نهضتها وازدهارها.
وإذا أردنا أن نبحث عن تفسير مقنع لهذا التراجع، فإننا نراه متمثلا في العناصر الآتية: أولا طغيان الحياة المادية التي أصبحت تطبع المجتمع العربي، خاصة مع توالي الأزمات الاقتصادية، فتحول الإنسان العربي، في ظل هذه الأوضاع الجديدة، من إنسان يسعى إلى تثقيف نفسه إلى باحث عن قوت يومه. ثانيا حدوث تحولات كبرى في وسائل نقل ونشر الثقافة حيث تم الانتقال من المستند الورقي إلى المستند الرقمي . وعلى الرغم من الجهود التي تُبذل في مواكبة هذه الطفرة الرقمية. إلا أن الدول العربية لا تزال تخطو خطواتها الأولى في هذا المجال. ولاشك في أن من حسنات جائحة كوفيد 19 أنها سرعت الانتقال إلى هذا العالم الافتراضي. ثالثا ينبغي أن نعترف أن الثقافة العربية وجدت نفسها في السنوات الأخيرة وجها لوجه أمام ثقافة استهلاكية، ثقافة الإثارة التي لها روادها الذين يفوقون للأسف الشديد من حيث العدد متابعي الثقافة العربية الحقيقية. في نظري إن هذه الثقافة الاستهلاكية التي لا تعكس الهوية العربية أو الإسلامية هي التي تُشكل تحديا كبيرا. الأمر الذي يدفعنا للتفكير في إيجاد الحلول المناسبة.
إن المتتبع للشأن الثقافي في بعض البلدان العربية يصيبه الإحباط من جراء ما آلت إليه أوضاع بعض المكتبات التي لم تساير الركب الحضاري؛ فظلت قابعة في زمن معين شهدت فيه الثقافة أزهى مراحلها وكأن الزمن توقف في تلك الفترة . ناهيك عن الإهمال الذي يُهددها من جراء سياسات الوزارات المتعاقبة التي تأتي ببرامج جديدة أكبر منها يصعب تنزيلها على أرض الواقع، نظرا لرغبتها القوية في مواكبة التطور الذي عرفه الغرب وبعض دول الخليج في هذا المجال. مما يجعلها تقف في منتصف الطريق لاهي طورت إمكانياتها المتاحة، ولاهي استطاعت تنزيل برامجها الحالمة، والتي تبقى في نهاية المطاف مجرد حبر على ورق. إن أكبر دليل على تراجع مستوى الثقافة العربية هي حالات الإفلاس الواضحة للعيان التي بدأت تُهدد كبريات دور النشر، وصرنا نقرأ بين الفينة والأخرى أخبارا صادمة عن بيع دار نشر كذا، وإغلاق دار النشر الأخرى. ناهيك عن البؤس الذي لحق أغلب المعارض التي أضحت مناسبة استعراضية لا أقل و لا أكثر لالتقاط الصور مع الكتاب والمبدعين دون الالتفات للكتاب المسكين الذي يُعاني غربة كئيبة زاد من حدتها طغيان الكتاب الإلكتروني؛ و بمجرد أن يُعلن المؤلف عن إصدار كتاب جديد في وسائل التواصل الاجتماعي حتى تتعالى الأصوات مستفسرة بنوع من الإلحاح عن تاريخ تنزيل الكتاب إلكترونيا، ومستعجلة تحميله مجانا.
فالكتاب الإلكتروني ينافس بشراسة الكتاب الورقي نظرا لمجانيته وسهولة الحصول عليه على الأقل في المجتمعات العربية حيث لا يتم تفعيل قوانين حماية الملكية الفكرية. وكان من الممكن التغاضي عن هذا التسيب،خاصة في ظل غياب قوانين رادعة، والالتفات في هذه الحالة إلى الكتاب الإلكتروني بصفته معبرا عن ظاهرة صحية تُساير الطفرة النوعية التي عرفتها مجالات الإعلام والتواصل من فيسبوك (Facebook) و تويتر (Twitter/ x ) ويوتيوب (YouTube) ولينكد إن (Linked in). وبنترإيست (Pinterest) وجوجل بلس (Google Plus) وتمبلر (Tumblr) وإنستغرام (ب(Instagram) وماي سبيس (Myspace).و غيرها مما هو متاح وفي متناول الجميع. ومن المؤكد أن هذه الوسائل كلها لو استُخدمت بشكل جيد لكانت داعمة حقيقية للثقافة ورافعة لها، لكن في هذا الفضاء الافتراضي اختلط الحابل بالنابل، وصار الجميع مثقفا يدلو بدلوه في كل المجالات و في كل التخصصات.
غير أن ما نود التنبيه إليه أيضا هو تلك الموضة الجديدة التي توسعت وتمددت في المجتمع الثقافي العربي، واستشرت مثل النار في الهشيم، والمتجسدة في طغيان ما يُعرف بالمؤتمرات العلمية والثقافية المؤدى عنها، والتي تنشط في دول سياحية بعينها (تركيا على سبيل المثال)؛ إنها مؤتمرات في كل التخصصات، وبكل اللغات، ويحق للجميع أن يُشارك شريطة أداء رسوم المشاركة، أما الورقة العلمية فلا أحد يلتفت إليها، فلا يهم ما تُقدم فيها من معلومات دقيقة أو غير دقيقة وأصالة البحث غير مطلوبة. والأدهى من ذلك أنها تُطبع في كتب. فكل من يُؤدي هذه الرسوم كاملة غير منقوصة له الحق الكامل في كتاب وشهادة مشاركة ودرع تكريمي وسهرة فنية في نهاية اللقاء. وقد حققت هذه المؤتمرات غايتها، وبلغت مبتغاها لأنها أدركت قيمة تلك الشهادة عند المشارك الذي قد تُساعده في ترقية أو تساهم في فوزه بمنصب توظيف.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وجدنا أنفسنا أمام شيوع ظاهرة غريبة غزت مواقع التواصل الاجتماعي تتمثل في منح شواهد الدكتوراه الفخرية التي صارت ملازمة لكل موسم ثقافي أو مهرجان، وأحيانا تكون فقط عبارة عن شهادة مصورة في صيغة PDF يُشهرها المستفيد في حسابه في فايسبوك أو انستغرام، متباهيا بها أمام المحيط الثقافي الذي ينتمي إليه. أما الجهة المانحة فقد تكون موقعا إلكترونيا أو جمعية فقيرة لا موارد لها. مع الإشارة إلى أن هذه الشهادة التي ساءت أحوالها في عالمنا العربي كانت في الأصل تُمنح من لدُن الجامعات الدولية العريقة وفق نظام معين خاص بها لبعض المشاهير والأعلام، اعترافا وتقديرا لدورهم الريادي في خدمة المؤسسات والمجتمع في مجال معين، فجامعة” أكسفورد” في بريطانيا منحت أول شهادة دكتوراه فخرية في القرن الخامس عشر، تلتها بعد ذلك جامعة “هارفرد” وبعض الجامعات الأخرى. في حين امتنعت جامعات أخرى عن إعطاء هذا النوع من الشهادات التي هي في واقع الأمر شهادة تكريمية، تهب الحاصلين عليها بعض الامتيازات المهمة، والتي لا يمكن الحصول عليها إلا بعد دراسة متأنية لملفات المرشحين للحصول عليها من قبل هيئة أو لجنة من الأساتذة. غير أن ما نلاحظه مؤخرا من تولي بعض الجمعيات الثقافية والمراكز الخاصة هذه المهمة يجعلنا نطرح أكثر من علامة استفهام حول هذه الظاهرة فما هي المعايير المعتمدة في الانتقاء؟ ومن هي اللجنة العلمية التي يخول لها القيام بالانتقاء؟ وما هي الامتيازات التي تمنحها مثل هذه الشواهد؟ والتي في نظري لا تتعدى أهميتها النشر على مواقع التواصل الاجتماعي وخلق شهرة وهمية تُغذي أنانية الفائز بها.
متى نستيقظ من هذا السبات الثقافي الذي جعلنا نغمض أعيننا عن جوهر الثقافة العربية التي تُعبر عن ذواتنا، وما تختزنه من قيم أصيلة؟ ومتى نُدرك أن هذه الآفات التي ابتلينا بها قد تجرف معها، إذا ما استمرت على هذه الوتيرة، آخر شعرة تربطنا بالثقافة العربية وبعدها الكوني؟