عروبة الإخباري –
الديار – ندى عبد الرزاق –
التوثيق هو عملية حيوية تجمع بين استقصاء المعلومات والأدلة وتسجيلها بشكل منظم، لضمان الحفاظ عليها واستخدامها مستقبلاً. ويعد عنصراً جوهرياً في النظم القانونية والإدارية، حيث يسهم في تحقيق العدالة، وحماية الحقوق، وتأمين الشهادات اللازمة في السياقات القانونية والبحثية. كما يكتسب أهمية كبيرة في مختلف المجالات، حيث يؤدي دوراً محورياً في حل النزاعات من خلال تقديم براهين قاطعة، تدعم إصدار أحكام قضائية منصفة. بالإضافة الى ذلك، يعزز من الشفافية والمساءلة في العمليات الحكومية والإدارية عبر توفير سجلات دقيقة. ويُعتبر أيضا أساساً لحفظ القيود التاريخية والبحثية، مما يسهم في دراسة وفهم الأحداث عبر الزمن، وبالتالي ضمان امتثال الأفراد والمؤسسات للقوانين والأنظمة السارية.
كيف بدأ الاستيثاق؟ يجيب خبير في القانون الدولي وعضو في منظمة الانتربول “يرجع تاريخ هذه العملية إلى العصور القديمة، حيث استخدم البشر وسائل بدائية لتسجيل المعلومات والأحداث. وقد كانت الكتابة في حضارات مثل مصر القديمة وبلاد الرافدين على الألواح الطينية والأوراق النباتية، وسيلة لتوثيق البيانات الإدارية والدينية. ومع تقدم الحضارات، تطورت أساليب التوثيق لتشمل النصوص القانونية والتشريعات المكتوبة. وازدهر التسجيل خلال العصور الوسطى، مع ظهور الأرشيفات القانونية والإدارية في أوروبا”.
وقال لـ “الديار”: “اكتسب التوثيق في العصر الحديث أبعاداً جديدة بفضل التكنولوجيا، حيث أصبحت الأنظمة الإلكترونية طريقة فعالة وآمنة لحفظ واسترجاع المعلومات والأدلة. ويظل اليوم عنصراً أساسياً لضمان العدالة واستمرارية العمليات التنظيمية في المجتمعات الحديثة”.
مفهوم التوثيق
وأشار إلى أن “هذا العمل يرمي إلى جمع وتسجيل المعلومات والأدلة المتعلقة بالأحداث والنزاعات، بهدف توفير أساس قانوني لتحقيق العدالة. تشمل هذه العملية الصور ومقاطع “الفيديوهات” والشهادات والمستندات الرسمية. أما التوثيق القانوني، فيختص بجمع القرائن بشكل مهيكل وفقاً للمعايير القانونية لدعم القضايا والمحاكمات المستقبلية”.
من هي الجهات المسؤولة عن هذا الفعل؟ يوضح: “تتولى المنظمات الحقوقية مثل الهيئات غير الحكومية المتخصصة في حقوق الإنسان والنزاعات، مهمة التوثيق. كما يمكن للمحامين والمتخصصين القانونيين تقديم التوجيه القانوني وجمع الأدلة، بما يتمشى مع القوانين المحلية والدولية. ويحق للأفراد المتأثرين تقديم شهاداتهم الشخصية حول الأحداث، بالإضافة إلى السلطات المحلية والدولية التي قد تجمع المعطيات بشكل رسمي”.
ويتابع: “يمكننا ربط ما قام به الشاب الفلسطيني عبود، الذي لا يتجاوز عمره 14 عاماً، بعملية توثيق المجازر والانتهاكات والاعتداءات من خلال نقله للخبر، حيث قدم شهادة شخصية حية وموثوق بها عن الأحداث الجارية في غزّة. يمكن استخدام شهاداته كدليل ضمن جهود توثيق الانتهاكات، حيث تضيف بعداً إنسانياً وواقعياً للأحداث. في المقابل، يعتبر عبود مثالاً على كيفية مساهمة وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة، في توثيق وتوزيع المعلومات حول الانتهاكات”.
ويشير الى انه “في 4 آب 2020 انتشرت عقب الانفجار الذي هز مرفأ بيروت “الفيديوهات” والصور التي التقطها المواطنون والصحافيون. وقد كشف هذا التوثيق البصري حجم الكارثة للعالم، ومدى تأثيرها المباشر في حياة الناس والبنية التحتية. ومؤخرا شهدت الضاحية الجنوبية لبيروت في 30 تموز الفائت قصفاً استهدف القيادي في حزب الله فؤاد شكر، وأدّت الشرائط المرئية دوراً محورياً في توثيق هذا الهجوم، الذي حصد أرواح ضحايا أبرياء ودمر عشرات المنازل والحق اضرارا جسيمة بالممتلكات”.
المقاصد
وأردف “يتضمن التوثيق التقارير الطبية التي توثق الإصابات التي لحقت بالأبرياء، والمستندات القانونية مثل الشكاوى والبلاغات والأحكام الصادرة. ويسعى إلى دعم القضايا القانونية من خلال عرض الأدلة ضد المسؤولين عن التجاوزات، والحفاظ على الذاكرة التاريخية للأحداث لضمان عدم نسيانها أو تحريفها. كما يساعد في تحديد الأضرار وتقديم التعويضات للمتضررين. بالطبع، تسهم هذه الجهود في تحقيق العدالة وتوفير الأساس القانوني لمحاسبة الجناة وضمان حقوق الضحايا”.
واكد “ان التسجيل كان ولا يزال أداة قوية في كشف الجرائم والخروقات، بما في ذلك المجازر التي ارتكبتها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين واللبنانيين. ومع ذلك، فإن دور التوثيق في إدانة تلك الجرائم وتعزيز العدالة يتفاوت بناءً على عدة عوامل، منها السياق السياسي والقانوني والدولي”.
التاريخ يعيد نفسه!
واستكمل “أثناء حرب تموز 2006، قامت منظمات دولية ومحلية بتوثيق الاعتداءات “الإسرائيلية”، بما في ذلك القصف العشوائي واستهداف المدنيين والبنية التحتية. مثل “هيومن رايتس ووتش” و “العفو الدولية”، والأمم المتحدة. ورغم هذا التوثيق الشامل، بقيت المحاسبة القانونية على المستوى الدولي محدودة، نتيجة لعوامل معقدة تعيق إحالة هذه القضايا إلى المحاكم الدولية أو إدانة إسرائيل رسمياً”.
وأوضح “انه خلال عملية طوفان الأقصى التي وقعت في تشرين الاول 2023، وثقت المنظمات الفلسطينية والدولية العديد من الجرائم والانتهاكات، وأصدرت تقارير أولية تشير إلى استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين”.
محاكمة “إسرائيل” حبر على ورق!
وقال: “كما حدث في حرب تموز 2006، لم تؤد هذه الجهود حتى الآن إلى محاسبة قانونية ملموسة ضد العدو الصهيوني، رغم المحاولات المستمرة من قبل محامين ومنظمات حقوقية لدفع القضية نحو المساءلة الدولية. وعلى الرغم من كل المشاهد الحية، يصعب تحقيق المحاسبة بسبب النفوذ السياسي الذي تتمتع به “إسرائيل” على الصعيد الدولي، والذي غالباً ما يمنع اتخاذ إجراءات قانونية ضدها. ومع ذلك، أثبت التوثيق أهميته في كشف الحقائق وتسجيل الجرائم التي ارتكبتها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين واللبنانيين. إلا أن التحديات السياسية والقانونية الكبيرة تعيق الوصول إلى إدانة حقيقية ومحاسبة فعلية”.
هل توجد تشريعات تتعلق بالتوثيق في لبنان؟ يجيب “نعم في لبنان هناك قوانين وتنظيمات تتعلق بتوثيق الأدلة بشكل منظم وقانوني في لبنان، وتشمل هذه التشريعات:
1- قانون أصول المحاكمات المدنية: المادة 142 منه تحدد كيفية تقديم الأدلة في القضايا المدنية، بما في ذلك الشهادات، الوثائق، والأدلة المادية.
– المادة 145: تنص على كيفية قبول الأدلة ومراعاة الأصول القانونية في جمعها وتقديمها.
2- قانون العقوبات اللبناني: يتناول الجرائم والعقوبات ويشمل نصوصاً تتعلق بجمع الأدلة والتحقيقات في الجرائم.
3- قانون الإجراءات الجزائية: المواد 50-56 تنظم الإجراءات المتبعة في التحقيقات الجنائية، وتحدد كيفية جمع الأدلة والتعامل معها من قبل السلطات القضائية.
4- قانون حماية البيانات الشخصية: يشمل القوانين المتعلقة بحماية المعلومات الشخصية والبيانات التي يمكن استخدامها كأدلة.
5- المراسيم والأنظمة الصادرة عن وزارة العدل: قد تشمل تعليمات وتوجيهات حول كيفية التعامل مع الأدلة وإدارتها.
6- توجيهات من السلطات القضائية: تتضمن الإجراءات التي تتبعها المحاكم والهيئات القضائية لتوثيق الأدلة بشكل يتمشى مع القوانين المحلية.
الدور الرسمي اللبناني
وختم الخبير في القانون الدولي وعضو في منظمة الانتربول “يتعين على الحكومة تخصيص الموارد المالية والدعم اللازم لتمويل جهود التوثيق والتحريات، وتقديم التدريب اللازم للكوادر المعنية لضمان تنفيذ عمليات التسجيل بشكل سليم. كما يجب أن تشرف الدولة على إجراء التحقيقات الرسمية حول الانتهاكات والجرائم، وتزويد فرق التحقيق بالموارد الضرورية لجمع الأدلة بطريقة منهجية ومنظمة”.