35
بقلم: فرح بهجت ياسين/ الأردن
تُعدّ المجموعات القصصيّة لسناء شعلان من المجموعات التي يمكن تحليلها، والاستفادة منها، ولاسيما تلك القصص التي تنتصر بها للمرأة؛ إذ القصص القصيرة عندها تركّز على النّساء وعلى حقوقهنّ بوصف ذلك جزءاً أساسيّاً من قضايا التّراث الأدبيّ العالميّ، كما تعكس هذه القصص تجارب وتحدّيات النّساء في مجتمعات متنوّعة، وتسلّط الضّوء على قضايا العدالة الاجتماعيّة والمساواة من خلال تفاعلها مع الظّروف الاجتماعيّة والثّقافيّة، وتعبّر عن قوّة النّساء وعن إرادتهنّ في السّعي نحو تحقيق حقوقهنّ، وتحقيق مكانتهنّ في المجتمع.
أولاً: رحلة في عالم الأديبة الفذّة سناء الشعلان:
في عالم الأدب الفسيح تتلألأ بعض الأرواح بنور خاصّ، فتنير دروب الفكر، وتسافر بنا إلى عوالم الجمال والإبداعـ ومن بين هذه الأرواح المتألّقة نجد أديبة استثنائيّة تتربع على قمّة الإبداع والتّميز، فهي أديبة تتلألأ بألوان الحكمة والجمال، هي الدّكتورة الفاضلة التي ترسم بقلمها لوحات أدبيّة مترفة، وتحمل في طيّات كلماتها عمق الفكر ورقي الرّوح، أديبة تحمل قلمها كسيف مبارز في ساحة الأدب الحديث، فتبرز بعض الشّخصيّات ببريق يختلف عن غيرها، ومن بين هذه الشّخصيات تبرز الأديبات اللّواتي نسجن من خيوط الحب والرّقّة لوحات أدبيّة جمال المرأة وعمقها الرّوحيّ.
إحدى هؤلاء الأديبات البارعات اللّواتي أسرت قلوب القراء برقتهنّ وأناقة كلماتهنّ هي سناء الشّعلان (بنت نعيمة) التي تُعدّ واحدة من أبرز الشّخصيّات الأدبيّة المعاصرة في عالمنا العربيّ؛ فهي ليست مجرد أديبة حسب، بل هي رمز للحسّ الأدبيّ العربيّ.
ثانياً: رحلة قافلة العطش:
قافلة العطش هي مجموعة قصصيّة للدّكتورة سناء الشّعلان، صدرت في عام ٢٠٠٦ عن مؤسسة الوّراق للنّشر والتّوزيع، في تلك المجموعة القصصية ١٦ قصة قصيرة، يكون السّرد اللّغويّ فيها راقياً ومنسّقاً في سرديّات ثيمات الأسطورة والخرافة والحكاية الشّعبيّة، تُختزل فيه اللاّواقع لتبدلّه بالواقع، وترسم من خلال هذه المجموعة السّعادة بأرقى معانيها، وترسم الحزن بأبشع مآسيه، وتعكس الواقع المرير بكلّ جرأة، وتعبّر عن آرائها بطريقتها الخاصّة، وتبيّن عبثيّة الحياة في جغرافيّة الصّحراء ذات القوانين الصّارمة الصّادرة بمراسيم واجبة التّنفيذ.
شخوص قصصها أكثرهم شخصيّات هامشيّة من عامة النّاس، ولا تنتقي أبطالها من المثقفين، أو من طبقة اجتماعيّة عليا؛ بذلك تقترب من القارئ، وتختصر المسافة بينهما وبين المتلقّي، لكن هذا لا يعني أنّ قصصها تسير في اتّجاه واحد.
عنوان هذه المجموعة ارتسم في كلّ زاوية من زوايا مجموعتها القصصية؛ فهناك قصص عاطفيّة: بعضها يشوبه الحرمان، وبعضها محموم بعاطفة مجنونة، وكأنّ هذه المجموعة تعبّر بشكل غير مباشر عن الكاتبة وروحها.
على صعيد اللّغة التزمت القاصّة باللّغة العربيّة الفصيحة والأدبيّة، مبتعدة عن العامية التي امتزجت باللّغة الشّعريّة، مما مكّنها من معالجة نصوصها بطريقة سرديّة، حافظتْ على المظهر الأدبيّ حتى تتجنب السّقوط في حفرة الحكاية.
ثالثاً: قافلة العطش بين التّحليل والتّوضيح:
تنفتح قصة قافلة العطش على مجموعة من المعطيّات الفكريّة والحضاريّة والاجتماعيّة لمجتمعنا العربيّ؛ فهو نصٌّ على قدر عالي من المرونة؛ فالقاصّة فتاة هذه البيئة التي أجحفت في حقوق المرأة عقوداً من الزّمن، فسعتْ لتعيد للمرأة ما سلب منها بقصد أو بغير بقصد، لتكون هذه القصّة واحدة من القصص التي تهدف إلى إعطاء المرأة قيمتها الحقيقيّة في عالمنا العربيّ.
فتدور أحداث هذه القصّة التي حملت اسم المجموعة القصصيّة في الصّحراء حيث تقوم إحدى القبائل الغازية بهزيمة قبيلة أخرى، وتأسر نساءه، ليقع بعد ذلك زعيم القبيلة المنتصرة في عشق إحدى الأسيرات، التي تبدو أنّها ابنة زعيم القبيلة، بعد أن فُتن بجمالها، ليرفض بعد ذلك عرض القبيلة المهزومة بفداء النّساء بالمال، بل وإكراماً لتلك الفتاة التي عشقها أنعم عليهن بالحريّة، وقدم للقبيلة الطّعام والشّراب، ثم تصل القصة لذروتها عندما ترفض تلك الفتاه الجميلة المأسور أن تنفك من أسرها، وتفضل البقاء مع آسرها على الرّجوع مع قبيلتها، لتأتي بعد ذلك ببدعة لم تسمع بها العرب من قبل، متحدية بذلك الأعراف القبليّة في سبيل البقاء إلى جانب الرّجل الذي تحبّه، حتى لو كان آسرها.
رابعاً: عناصر القصّة:
1- الشّخصيّات:
بلورت أحداث هذه القصيدة شخصيتين رئيسيتين، هما البدويّ الأسمر، والفتاة الجميلة التي أسرها.
البدويّ الأسمر: رجل شجاع، ذو شخصية قويّة قادرة على الدّفاع عن أفكارها، ترى في الجديد القادم مستقبلاً أفضل، ترفض ظلم المرأة ومسانداً وداعما لها.
الفتاة الجميلة: هي الشّخصيّة المحوريّة في النّصّ، هي متمرّدة على واقع المرأة المعيش رافضة له، وطامحة في تحقيق الأفضل في واقعها، وعالمها الأنثويّ.
يقابل هذه الشّخصيات شخصيّات ثانويّة تمثلّت} في:
– شيخ القبيلة: شخصيّة مثلّت الّرفض للجديد، متمسّكة بالأعراف والتّقاليد.
– رجال القبيلة: مثلوا النّظرة للمرأة من منظور الأعراف الجاهليّة؛ لقتل نساءهم ووأد أطفالهم.
– الطّفلات الصّغيرات: شخصيّات ثابتة ومظلومة.
2- المكان والزّمان:
في يوم من أيام الصّحراء في وطن الحرمان والضّياع والسّلب.
3- الحوار:
أ- حوار بين زعيم القبيلة، والشّاب الأسمر.
ب- حوار بين الشّاب الأسمر والفتاة الجميلة.
د- العقدية:
تمثلت في رفض الفتاة العودة مع أهلها ورجال قبيلتها، وتفضيلها أن تبقى بالأسر، فتكسر العادات والتقاليد المعروفة؛ لتخرج مجريات القصّة عن الأفق المتعارف عليها.
خامساً: الوحدة الموضوعيّة في قصّة قافلة العطش:
إنّ ما خطّه قلم الكاتبة في هذه القصّة يعتمد على الصّور الفنّيّة والرّموز منذ بداية القصّة حتى نهايتها، بل يبدو الرّمز واضحاً من العنوان “قافلة العطش”.
أولا: عتبة العنوان:
تمثّل عتبة العنوان أهميّة خاصّة بين العتبات النّصيّة الدّاخليّة والخارجيّة، والعنوان ما هو نصٌّ مصغّرٌ، وهو يكمل النّصّ الأكبر الذي يحمل في طيّاته دلالات عميقة تعطي القارئ فكرة عن النّصّ، على الرّغم من كونه يتّصف بالإيجاز اللّغويّ، إلّا أنّه يحمل في طيّاته دلالات عميقة لها أفكار كثيرة مترابطة أراد أن يرمي الكاتب إليها، وهذا تماماً ما وجد في عنوان “قافلة العطش”.
جمع هذا العنوان بين أمرين قد نجدهم متناقضين من حيث الدّلالة “قافلة ” و”عطش”؛ فاللّفظة الأولى تدلّ على مجموعة المسافرين الذين يحملون معهم الأمتعة والطّعام والماء، وعلى الأغلب يحملون الكثير من المال، في حين اللّفظة الثّانية “العطش”، أيّ الإحساس بالحاجة إلى شرب الماء. فكيف للقافلة المحملة بالماء أن تعطش؟ فهناك تناقض؟ وهذا ما سيشعر القارئ به للوهلة من القراءة، لكن بعد قراءة النّصّ والإبحار فيه سنجد أنّ الكاتبة جمعت بين هذين الأمرين، وشكّلتهم في صورة واحدة بعيدة عن التّنافر.
إنّ ما رمت إليه الكاتبة أنّ القافلة وكلّ ما فيها من أناس هم عطشى، لكنّه ليس العطش الطّبيعيّ إلى الماء، وإنّما عطش الحبّ والمشاعر، وأنّ الكاتبة قد كشفتْ عن ذلك بصور مباشرة، وغير مباشرة في قصتها ومن ذلك شعرت القافلة بأنها محملة دون إرادتها بالعطش إلى الحبّ والعشق، فمزجتْ بينهم بطريقة إبداعيّة موجزة وموحية ومعبّرة عن هدفها من كتابة القصّة.
من هذا المنطلق حملت المجموعة القصصيّة أيضاً هذا العنوان لتعبّر عن رؤية الكاتبة المتمثّلة في العطش إلى الحبّ والعشق.
بدأت القصّة بصور فنيّة مترابطة ومتماسكة ومتتابعة تبيّم حال وهيئة القافلة بعد أن غيّرت لونها الشّمس، وأثقلتها المهمة التي أتت من أجلها، وزاد عطشها.
تنتقل بنا من صورة القافلة إلى صورة رجال القافلة، وأنّهم قادمون كي يدفنوا الحبّ والحكايات في الصّحراء قبل أن تنموا بعباءات سوداء تماما مثل أحقادهم.
تنتهي من هذه الومضة السّريعة، وتبدأ بسرد الأحداث ومجريات القصّة، وتوكل هذه المهمّة إلى الحوار الذي دار بين كبير القافلة والبدوي الأسمرّ؛ إذ يبدأ العجوز الملثم الحوار بأنّه قد أحضر المال لافتداء الأسيرات التي أسروهنّ، وأتت الإجابة في المقابل من البدويّ الأسمر برفضه لذلك المال؛ لأنّه يتنافى مع مبادئه وأخلاقه؛ لأنّه يرى أنّ افتداء النّساء الأسيرات بالمال هو انتقاص من قيمتهنّ الثّمينة.
الحوار الذي جاءتْ به حوار متسلسل، يقود بعضه إلى بعض، ولا يتناقض مع الآخر ليصل بعد ذلك بالأحداث إلى النّمو والتّطوّر؛ فيقوم البدوي الأسمر بفكّ أسره دون مال، بل ويقدم الطّعام والشّراب للقافلة.
تظهر الشّخصيّة المحوريّة التي يقوم عليها النّصّ، بل الشّخصيّة التي تمثّل الفكرة التي أرادتها الكاتبة، وهي أنّ البدويّ الأسمر في الواقع قد وقع في حب إحدى الأسيرات، والدّليل على ذلك الصّور التي شبهها بها؛ فهي –وفق تعبيره- أجمل من القهوة العربيّة، بل هي كالخيل العربية الأصيلة في جمالها. فما كان إكرامه لقومها إلّا من أجلها، بل وخيرهن بين البقاء أو الرّحيل، ففضلت البقاء بسبب حبّها له، وتشعر القافلة بالخزي والمصيبة التي حلّتْ بسبب تلك الفتاة، وتعود من حيث أتتْ ممّا يجعل الكاتبة نعتها بقافلة العطش، أيّ العطش إلى الحبّ، لتشكل لنا الأحداث وحدة واحدة لها بداية تدفع الأحداث إلى تطورها، وصولاً إلى النّهاية.
يدلّ العنوان على فكرة القصّة ومكمّلاً لها، لكن هذا كلّه لا يكفي لكي نطلق على هذه القصّة بأنّها تتميّز بوحدة عضويّة، فلا بدّ من أن نلقي النّظر على نقاط جوهريّة أخرى، ومنها: إنّ القارئ لهذه القصّة يرى بأنّها قائمة على الرّمز، أيّ أنّ هذه الشّخصيّات والأفكار كلّها ما هي إلّا رموز للفكرة التي أرادتْ أن تمثلّها، وتنقلها القاصّة، ألا وهي تقيد المرأة بالعادات والتّقاليد التي تدلّ على الفكر الرّجعيّ الذي يؤثر سلباً على المرأة، ويحدّ من حرّيتها، ومن هذه الأشياء الحبّ، ومن يفقده، فهو كالعطشان الذي لا يروي عطشه شيء.
من خلال النّصّ نجد أنّ:
أ- البدوي الأسمر: رمز لمن يرفض ظلم المرأة، ويحجب حرّيتها، ويدافع عنها.
ب- الفتاة الجميلة: رمز للفتاة التي ترفض واقع المرأة المعيش، وطامحة لتحقيق الأفضل في عالمها الأنثويّ الذي سرق منها بسبب العادات المميتة.
ج- شيخ القبيلة: رمز لمن يتمسك بالأفكار والتّقاليد وإن كانتْ خاطئة، وتضرّ بالآخرين.
د- رجال القبيلة: من يمثّل النّظرة الجاهليّة في قتل النّساء، ووأد الطّفلات خوفاً من العار.
هـ- الطّفلات الصّغيرات: رمز للمظلومين بسبب العادات والعطش دون ذنب لهنّ في ذلك.
نتبيّن من هذه الرّموز التي جاءتْ متوافقة مترابطة أنّ النّصّ يعكس اتّجاهين اثنين:
الأول: تياراً مسانداً وداعماً للمرأة، وهو مَنْ يسعى لتخليصها من بعض العادات والمعتقدات السّلبية التي تعيدها للوراء، وهو متمثّل بالبدويّ الأسمر.
الثّاني: هو التّيار الذي لا يساند، ويدعم المرأة، بل ويهاجم التّيار الأوّل، ويقف أمام تطوّر المرأة الذي يمثّل ذلك رجال قافلة العطش بما فيهم كبيرهم.
نجد أنّ الكاتبة كانت متدرّجة ومتسلسلة في عرض هذه الرّموز والشّخصيّات كما من بداية القصّة، وكان تعبيرها دقيقاً فيه نوع من التّجديد، وهذا من الأمور المطلوبة كي نصف النّصّ بأنّ له وحدة عضويّة.
الصّور الفنيّة التي جاءتْ بها صور من مفردات الصّحراء، ومن ذلك عندما شبّهت جمال الفتاة بجمال القهوة بل فاقته جمالاً، وكذلك في تشبيهها الفرس العربيّة الأصيلة، وأيضاً عند تصوير رجال القافلة، بأنّهم جاءوا ليدفنوا الحب قبل ظهوره بعباءاتهم السّوداء، وهذا هو لباس الجاهلين قديماً.
أمّا اللّغة فقد ابتعدت عن اللّغة العاميّة، واقتصرت على اللّغة العربيّة، فكانتْ لغة شعريّة مكثّفة حملت مجموعة من الصّور الفنيّة والصّور الفنيّة ما هي إلا مكملة ومتوافقة مع الصّورة التي قبلها.
خلاصة القول إنّ الجماليّة لهذه القصّة تنبع من وحدتها العضويّة المتمثّلة في ترابط الأحداث وتسلسلها، ودفع بعضها بعضاً نحو الأمام، مع الاعتماد على الصّورة الشّعرية المترابطة، وتنطوي على دلالات جزئيّة متتابعة منسجمة مع بعضها والألفاظ المتوافقة والمعبّرة عمّا في نفس الكاتبة ممّا جعل من النّصّ وحدة واحدة، ينمو نمواً داخليّاً تماماً كالكائن الحي، وبشكل أخصّ فقد شكّلت القصة وحدة عضويّة واحدة.