تُمثل نظرية الأرشيف موضوعا أثيرا لدى عديد النقاد والباحثين والفلاسفة والمفكّرين وبخاصة في فكر ما بعد الحداثة، ولا فكاك من تأكيد حقيقة مؤداها أنّ جذور هذه النظريّة تمتدُّ إلى أفكار الفيلسوف الفرنسيّ التفكيكيّ جاك دريدا (Jacques Derrida) في دراستيه التأسيسيتين الموسومتين بـ: «حمّى الأرشيف الفرويديّ» و«الأرشيف، الأثر، الفن»؛ وكتاب بول ريكور (Paul Ricœur) الموسوم بـ: «الذاكرة، التاريخ، النسيان»، وميشيل فوكو (Michel Foucault) في دراسته «حفريّات المعرفة»، إذ ينتمي مصطلح الأرشيفيّة إلى دراسات الأرشيف (Archive Studies)، وهو يمثّل حقلاً معرفيّاً جديداً، على اعتبار أنّ الأرشفة والأرشيف عمل إنسانيّ يرتبط بالذات الإنسانيّة التي تلوذ بكتابة أرشيفها الخاص وتحتمي به في وجه عاديات الزمان، وفق ما نشرته يومية الرأي.
ومن المهم الإشارة إلى أن ثمّة وشيجة بين الدراسات الثقافيّة والأرشيفيّة، فقد وجد الأرشيف في ميدان هذه الدراسات فضاء معرفيّاً جديداً ورَحْباً، فالاهتمام الكبير الذي رافق الدراسات الثقافية من لدن الباحثين: تنظيراً وتطبيقاً وترجمة يشي بالقيمة المعرفيّة التي باتت تشكلها في الدرس الفكر المعاصر.
وفي محاولة القبص على جِمار هذا المفهوم الاصطلاحيّة يقول دريدا: «حسناً، بخصوص الأرشيف، لم ينجح فرويد أبداً في تشكيل أي شيءٍ يستأهل أن يسمّى مفهوماً» (دريدا، جاك، الأرشيف، الأثر، الفن، ترجمة: إبراهيم محمود، ط1، 2020م، دار الحوار للنشر والتوزيع، دمشق، ص53)، وهو ما يعودُ ليؤكده في موضع آخر بقوله: «أصبحت دلالة المصطلح نوعاً من الدلالة السائبة لمجموعة متباينة من المفاهيم» (دريدا، جاك، الأرشيف، الأثر، الفن، ص53).
وبهذا المعنى تكون الأرشفة ردّاً بالكتابة أو تحبيكاً للتّاريخ كما في الدراسات الثقافية، وتدويناً لتاريخ الذات الخاص، كما ترتضيه هي سواء كان يتفق معها أو يخالفها، ولذلك يرتبط مصطلح الأرشيف بفكرة النسق؛ لأن الأرشيف متحوِّل ومضمر، وقادر على الحركيّة والتشكُّل والامتصاص والاستيعاب وبناء عوالم مغايرة.
وإذا كان مصطلح الأرشيف مصطلحاً رائجاً في النظريّة النقديّة الغربيّة فإنّ حضوره في النقد العربيّ تجلّى في تجربين لا ثالثة لهما، هما تجربة الناقد الأردنيّ الراحل يوسف عليمات في دراسته «ثقافة النسق» (يُنظر: يوسف عليمات، ثقافة النسق: تجليّات الأرشيف في الشعر العربيّ القديم، ط1، 2021م، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت)، والناقد العراقيّ عبدالله إبراهيم في دراسته «الأرشيف السّرديّ» (يُنظر: إبراهيم، عبدالله، الأرشيف السردي: الأحلام، العنف، السخريّة، ط1، 2019م، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت).
أما كتاب عليمات فيقيم أودَهُ على مقولة «أرشيف النّسق» أو «نسق الأرشيف»، فالنصّ من منظور عليمات «بنية أرشيفيّة»، أو «أرشيف نسقيّ»، ذلك أنّه يمثل أرشيف الذات الشاعرة، المصابة بـ «حُمّى الأرشفة» كما يشير إلى ذلك جاك دريدا، فالنصّ بوصفه أرشيفاً طقسٌ من طقوس البقاء والخلود، التي يدفع بها المبدع/ الشاعر عن نفسه وروحه غوائل الزمن، وقانون المحو والاندثار.
ولأن الأرشيف مرتبط بالذاكرة في أصله، أي بوصفه تسجيلاً للذاكرة، وحفظاً لها، فقد كان عبدالله إبراهيم واعياً بضرورة الانكباب على دراسة الأرشيف وتجلياته في السرديّة العربيّة بتحت إطار مصطلح كبير هو «الأرشيف السرديّ»، ويقيم عبدالله إبراهيم مقولته على فكرة أنّ السرد أرشيفٌ، وذاكرةٌ حافظة للأحلام والعنف والسخريّة، وفي تأكيدٍ على أن دراسته لا تنتمي إلى الأفق الرائج عن الدراسات الأرشيفيّة باعتباره تسجيلاً أميناً ودقيقاً للواقع والحياة والحوادث يؤكد إبراهيم أن مفهوم الأرشيف السرديّ عنده يتجاوز فكرة «الدلالة المكانيّة للأرشيف بصوفه مستودعاً للوثائق إلى اعتباره مستودعاً للمتخيلات» (إبراهيم، عبدالله، الأرشيف السردي: الأحلام، العنف، السخريّة، ص8).
لقد شقّق عليمات مصطلح «الأرشفانية» (Archivanism) بالاعتماد على معرفته المصطلحية، فأضاف إليه لاحقة صرفيّة في نهايته، فالأرشفا/نيّة قياساً إلى البنيو/يّة والتفكيك/يّة والطاهر/اتيّة وغير ذلك من هذه المصطلحات تكشف عن قدرة الناقد الراحل على استيلاد مصطلح له بعد عصريٌّ مواكب.
ولعلّ السبب الذي دفع عليمات إلى أن يسم مصطلحه بالأرشفانيّة هو أنه ينفتح بممكنات الدراسات الأرشيفيّة الكلاسيكيّة على مناهج مختلفة، فطرحه ينمازُ بفرادة منهجية تتأتى من محاولته استثمار عدد من المفاهيم النقديّة من المدرسيّات النقديّة الغربيّة، ومن ثم جعلها لحمة مقارباته وسداها في ضوء الأرشفانيّة، بيد أنّ ممارسته النقديّة لمفهوم الأرشفانيّة يحفز على أن توسم هذا النظرية في السياق العربي بالأرشفانيّة الجديدة جرياً على ما سمّيت به «التاريخانية الجديدة» (New Archivanism) التي أسّسها «ستيفن غرينبلات» (Stephen Greenblatt) الناقد الثقافيّ والتاريخانيّ، وعليه فيكاد ينحصر الاشتغال النقديّ الحقيقيّ في هذا المصطلح في محاولات عليمات الجادة والمبكّرة التي تشفّ عن سيميائيّة ناقد عارف، مشتبكٍ بأحدث نظريّات النقد في العالم.
إن تطوير هذا المصطلح والاشتغال عليه في السياق العربيّ يستطلب كفاءة نقديّة قادرة على تمثُّل ثقافة الابتكار والإبداع والتجديد، فالاشتغال بمصطلح «الأرشفانية الجديدة» (New Archivanism) محاولة جادة في السهمة في صكِّ مصطلح عربيّ الوجه واليد واللسان، يجعل لهذا للسان العربيّ مصطلحات خاصة تضارع المصطلحات التي ينتجها العقل الغربيّ.
صحيح أنّ هذا المصطلح ليس عربيّاً بما يبعث لدى المتلقّي سؤالاً معرفيّاً كبيراً حول جدوى استثماره في السياق العربيّ، ولكن انتظامه بيسرٍ في سلك البنية الصرفيّة للعربيّة، وسهولة تشقيق أوزان وصيغ متعددة منه نحو: أرشف.. يؤرشف.. أرشفة، فهو مؤرشِف أو مؤرشَف، وربط ذلك بدلالات جمهرة من الألفاظ التي تتقاطع معه في الدلالة الكبرى: كالدَّسْت، والإضمامة، والإضبارة، والربيدة، والديوان، والطرس…إلخ، يقوّي راقد العزم بأن يستكمل مشروع عليمات الذي وقف عند حدود الأرشفانية إلى أفق متلاحب ترسو فيه مراكب النقد العربيّ على شواطئ الأرشفانيّة الجديدة.
وعليه فالقراءة الفاحصة للأدب العربيّ، طريفه وتالده، أثبتت انفتاحه على ممكنات النظريّات النقديّة الحديثة والمعاصرة، ممّا يحفز على خوض هذه المغامرة في كشف تفاعله مع دراسات الأرشيف ونظريات ما بعد الحداثة، بما يُمكِّن من إعادة قراءة النصّ العربيّ قراءة ثانية من منظور حداثيّ معاصر.
وإذا كانت الأرشيفات متوالدة، وحاضرة في جلّ النصوص، فإنها تغدو أرشيفاتٍ لا حصر في البنى النصيّة والثقافيّة، وبناءً على هذا التأسيس فإنّ الحديث عن «الأرشفانيّة» أو «الأرشفانيّة الجديدة»، حديث مشتجر، لأنّ هذه النظريّة الناهضة تحاول أن تدرس ما يتضمّنه الأدب من تشكيل رؤيويّ وأرشيفيّ للكون في منظور المبدع، بوصفه انعكاساً لأرشيفه الحياتي الخاص.
وهكذا، «الأرشفانية الجديدة»، في رؤيتي النقدية، تكشف عن ضرورة قراءة النص باعتباره حدثا أرشيفيّاً، يدوّن فيه المبدع أرشيفاً متعيّناً، سواء واقعياً أو متخيّلاً بالانطلاق مما أورده النقاد العرب القدامى من أفكار ذات وشيجة بهذه الفكرة، ومن ثَمَّ ربطها بسياق الثقافة العربية والإنسانيّة المعاصرة.