عروبة الإخباري –
تعاني إسرائيل من فقدان الخيارات الإستراتيجية، فهي لم تعد تعرف هل ستستمر في الحرب التي تشنها في قطاع غزة من دون امتلاك خطة لليوم التالي، ومن دون اتفاق بين مكوناتها داخل الحكومة والمعارضة على أهدافها، وكيفية تحقيقها، خاصة بعد أن تبين لأعداد متزايدة ومرور الوقت أن هدف القضاء المطلق على حركة حماس والمقاومة غير قابل للتحقيق، ويتناقض كليًا مع هدف إطلاق سراح المحتجزين والأسرى.
كما أن إسرائيل لا توافق على بقاء سلطة “حماس” ولا عودة السلطة ولا تجد الجهات المحلية التي تفصلها بحسب طلبها، ولا تريد سيطرة عسكرية ولا مدنية إسرائيلية على القطاع، ولا تعرف هل ستبقى قواتها في قطاع غزة لضمان الأمن، وما المدة التي تحتاج إليها، وسط خلق حقائق على الأرض تتمثل في مناطق عازلة على طول الحدود، وتفصل شمالي قطاع غزة عن جنوبه، وتقيم مواقع وتحصينات دائمة في مناطق عدة، وتعمل على ألا يشكل القطاع تهديدًا بالمستقبل، وهو لا يزال يشكل مثل هذا التهديد، ولا تدري إذا قررت الانسحاب من سيحل محلها؟
والأهم من كل ما سبق، يظهر المأزق في كيفية التعامل مع حرب الإسناد، وهل ستقف إذا انتقلت قوات الاحتلال إلى المرحلة الثالثة و”انسحبت” من رفح بعد أيام كما أعلن الجيش، أم ستحولها إلى حرب أكبر أو شاملة، أم تبقى ضمن قواعد الاشتباك التي سارت عليها حتى الآن؟
تعبيرًا عن هذا المأزق الإستراتيجي، كان بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي، “محقًا” بقوله إن دولة الاحتلال يجب أن توجه ضربة حاسمة إلى حزب الله الآن على الرغم من الثمن الذي ستدفعه، ويوافقه على الموقف نفسه بشكل أو آخر قادة سياسيون وعسكريون، حتى في صفوف المعارضة، حين يتحدثون عن ضربة ساحقة أو خاطفة، وعن إقامة منطقة عازلة في جنوب لبنان؛ لأن الثمن من الحرب على الجبهة الشمالية سيكون أكبر في المستقبل، فلا مفر من الحرب إن لم يتم التوصل إلى تسوية، إن لم يكن اليوم فغدًا. وهذا “رأي وجيه”، فإذا لم يتم التوصل إلى تسوية كبرى تشمل المنطقة برمتها أو جزئية، فلا مفر من حرب شاملة قد تفتح الباب أمام حرب إقليمية، وربما تنزلق الأمور إلى حرب عالمية.
حرب غزة: حرب كبرى أم تسوية كبرى
ما يجري في غزة له تداعيات كبيرة على المنطقة والعالم، وقد يقود إلى حرب أو حروب كبرى، أو إلى تسويات جزئية تقود إلى تسوية كبرى ترسم خريطة المنطقة الجديدة، بالتوازي مع خريطة العالم الجديد، الذي يطل برأسه مع تواصل انهيار النظام العالمي القديم، وإرهاصات قيام نظام عالمي جديد.
وهنا، فإن تزايد فرص نجاح دونالد ترامب بعد مناظرته مع جو بايدن، وميل أوروبا المتزايد نحو اليمين، كما دلت انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي والانتخابات البرلمانية الفرنسية، كلها تصب الزيت على نار الأزمات الإقليمية والدولية.
كما يظهر المأزق الإستراتيجي في حيرة يوآف غالانت، وزير الحرب الإسرائيلي، بين توجيه ضربة تعيد لبنان إلى العصر الحجري وبين التوصل إلى حل سياسي.
تبريد الحرب هو السيناريو الأقرب
تكمن المعضلة في أن الحل السياسي بحاجة إلى وقف حرب الإبادة في غزة، وحرب الإسناد لن يوقفها إلا وقف حرب الإبادة في غزة وفق شرط حزب الله، ونتنياهو لن يوقفها لأن استمرارها بمنزلة بوليصة تأمين لبقاء حكومته، وتجنب التحقيق في الإخفاق التاريخيّ في السابع من أكتوبر وما بعده؛ إذ إنّ “الجيش الذي لا يقهر” لا يستطيع حسم الحرب في غزة على الرغم من مرور تسعة أشهر على اندلاعها، وسقطت قوة ردعه. لذلك، فإنّ السيناريو الأقرب للحدوث حتى الآن تبريد الحرب، وانتقالها إلى قصف وعمليات مكثفة، وبقاء قواعد الاشتباك على الجبهة اللبنانية كما هي، أقل أو أكثر، من دون التحول إلى حرب شاملة لن تبقى طهران وواشنطن إذا اندلعت بعيدتيْن عنها.
المرحلة الثالثة من الحرب تهرّب من الهزيمة
حتى يتفادى الاحتلال الاعتراف بالهزيمة، يتحدث عن انتقال الحرب إلى المرحلة الثالثة، وهي تُصوّر تارة بأنها نهاية مشرفة للحرب، وتارة أخرى وفق نتنياهو ومعسكره بأنها استمرار للحرب حتى تحقق أهدافها، وحتى يتم إيجاد إدارة موثوقة للقطاع بعيدة عن “حماس”، كما نقل عن مسؤول إسرائيلي.
ويعني ذلك وفق المسؤول بقاء جيش الاحتلال لأشهر عدة في قطاع غزة؛ لأن مثل هذه الإدارة لم توجد بعد، ولن توجد حتى لو كثرت الأفكار والخطط الخيالية الإسرائيلية، مثل الخطة التي عرضها غالانت في واشنطن والتي تتضمن تقسيم قطاع غزة إلى 24 منطقة إدارية منفصلة عن بعضها البعض، كما تشمل تشكيل قوة عربية دولية أميركية لم يوافق أي مدعو لها على الاشتراك فيها حتى الآن على الأقل.
وكدليل على التخبط وفقدان الخيارات، سارع مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى نفي الخبر المنسوب إليه، الذي جاء فيه أنّه غير موقفه وبات مستعدًا لكي تقوم السلطة بدور في اليوم التالي لقطاع غزة، كما تحدث يسرائيل كاتس، وزير الخارجية الإسرائيلي، عن إمكانية أن تقوم السلطة بدور في مستقبل غزة إذا نفذت المطلوب منها، وحققت السلطة “النشطة والمتجددة”.
هذا كله يحدث في وقت تم فيه كشف ما هو معروف، وجارٍ تنفيذه بتكثيف أكبر عن خطة وضعها سموتريتش لتغيير وضع الضفة الغربية بشكل جذري من دون ضم رسمي وإعلان علني.
قرارات لتوسيع الاستيطان ومعاقبة السلطة
في هذا السياق جاءت القرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية بوصفها نوعًا من المقايضة بين فريقين. فمن جهة تتضمن توسيع الاستيطان، وشرعنة عدد من البؤر الاستيطانية، وإقامة مستوطنة جديدة مقابل اعتراف أي دولة بالدولة الفلسطينية، وتطبيق القوانين الإسرائيلية في مناطق (أ) و(ب)، حيث تسطو سلطات الاحتلال على السيطرة المدنية للسلطة على مناطق (ب)، أسوة بما فعلته سابقًا من إلغاءٍ عملي للسيطرة الأمنية للسلطة على المناطق (أ)، ومعاقبة السلطة بسحب المزيد من بطاقات (VIP)، والتفكير بإبعاد عدد من قيادات السلطة.
ومن جهة أخرى، تحويل 200 مليون شيكل، وهو جزء من أموال السلطة التي سرقتها سلطات الاحتلال سابقًا، وتمديد الكفالة البنكية للبنوك الفلسطينية لأربعة أشهر أخرى نزولًا عند توصية جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية، التي حذرت من أن عدم تحويل جزء من أموال السلطة على الأقل سيؤدي إلى انهيار السلطة، وسيضر بالأمن الإسرائيلي، وهذا ما حذر منه كل من البنك الدولي وأوروبا وأميركا.
اتجاهان داخل حكومة الاحتلال: حل السلطة أو بقاؤها ضعيفة
هناك اتجاهان يتجاذبان الجانب الإسرائيلي: الأول، يرى ضرورة حل السلطة لأن بقاءها يجسد هوية وطنية فلسطينية واحدة، وهذا يبقي الباب مفتوحًا لإقامة دولة فلسطينية، الذي يعدّ قيامها تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، والآخر، يرى أن من مصلحة دولة الاحتلال بقاء سلطة فلسطينية ضعيفة تقوم بتحمل المسؤولية وتكون وكيلًا أمنيًا، وتبقى ما بين الموت والحياة، وتحت الابتزاز والشروط الإسرائيلية، ويمكن أن يسمح لها بالعمل مستقبلًا في القطاع بعد تأهيلها وتجديدها.
التهديد باستخدام السلاح النووي
لا يقتصر مأزق فقدان الخيارات على ما تقدم، بل يظهر في تصريحات أطلقها أكثر من مسؤول إسرائيلي هددوا باستخدام سلاح يوم القيامة؛ أي السلاح النووي.
فبعد عميحاي إلياهو، وزير “التراث” الإسرائيلي، المنتمي إلى حزب “عوتسما يهوديت” (القوة اليهودية) الذي يتزعمه إيتمار بن غفير، الذي هدد باستخدام القنبلة النووية ضد قطاع غزة، هدد يسرائيل كاتس، وزير الخارجية الإسرائيلي، باستخدام أسلحة الدمار الشامل ضد إيران، على أساس أن النظام الذي يهدد بالتدمير يستحق التدمير؛ ذلك ردًا على ما نسب إلى البعثة الإيرانية بالأمم المتحدة من أقوال عن عدوان عسكري شامل سيقابل بحرب إبادة.
أما يائير كاتس، رئيس مجلس عمال صناعة الطيران، فقال إن تل أبيب لديها سلاح يكسر المعادلة، ولديها القدرة على استخدام أسلحة يوم القيامة، مشددًا على أن المهم أن نفهم أن هناك خطرًا وجوديًا.
بيني موريس: تدمير البرنامج النووي الإيراني فورًا
اللافت للنظر أن المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس صب الماء في الدولاب نفسه، وكتب مقالًا في صحيفة هآرتس جاء فيه: “لا توجد لحظة أفضل من هذه اللحظة من أجل توجيه ضربة إستراتيجية لإيران”. وأضاف أن تدمير البرنامج النووي الإيراني واجب وجودي على إسرائيل، مشددًا على أن بقاء إسرائيل أكثر أهمية من الإدانات الدولية، وحتى من العقوبات التي يمكن أن تفرض على إسرائيل ردًا على استخدامها السلاح النووي ضد ايران.
ويعتقد موريس على الرغم مما تقدم أن دول العالم ستتفهم هجومًا عسكريًا بالسلاح غير التقليدي ضد إيران، محذرًا من امتلاك إيران للسلاح النووي؛ لأنه سيجعل – حتى لو لم يُستخدم – كل مستثمر أو أي قادم جديد يهرب من إسرائيل، وسيجعل الكثير من الإسرائيليين يهربون منها، مؤكدًا أن إسرائيل ستذوب على خلفية الضربات المتكررة التي ستوجه إليها على غرار ما حدث في السابع من أكتوبر.
استخدام السلاح النووي لا يزال مستبعدًا
لا يعني ما سبق أن استخدام السلاح النووي أصبح مرجحًا، أو لا مفر منه، بل لا يزال مستبعدًا لأن تداعياته خطيرة، ويمكن أن تصل إلى حرب عالمية، فهناك نوع من التفاهم الدولي الضمني غير المكتوب حول عدم استخدام السلاح النووي، ولكن التهديد باستخدامه على لسان أكثر من مسؤول وشخصية عامة إسرائيلية في العلن، والمأزق العميق وغير المسبوق الذي تعيشه إسرائيل، يجب أن يؤخذ بالحسبان، خاصة إذا واجهت دولة الاحتلال تهديدًا وجوديًا.
ومن المؤكد أن ما يجري تداوله في السر في الأروقة الإسرائيلية أكبر وأخطر، لا سيما أن الحكومات الإسرائيلية فكرت في السابق مرات عدة باستهداف المنشآت النووية الإيرانية، غير أنها لم تفعل ذلك؛ بسبب عدم حصولها على الضوء الأخضر الأميركي، ولأنها لا تستطيع استيعاب الرد الإيراني المحتمل وضمان الانتصار. هذا سابقًا، فكيف اليوم وإيران وحلفاؤها باتوا أكثر قوة بكثير، بدليل حروب الإسناد التي اندلعت منذ الثامن من أكتوبر الماضي وحتى الآن.
الخلاصة: ما بعد السابع من أكتوبر ليس كما قبله
ما بعد السابع من أكتوبر يختلف كثيرًا عما قبله، وما تستطيع فعله إسرائيل أقل بكثير عما كانت قادرة على فعله سابقًا. فإسرائيل قوية، ولكنها أضعف مما كانت عليه، وبحاجة إلى من يساعدها، غير أنها أصبحت أكثر تطرفًا وخطورة، ويمكن أن تفكر باستخدام كل ما تملكه، وحتى تستخدمه فعلًا إذا تعرضت لخطر وجودي وفقدت الخيارات الأخرى، ولعل وجود هذا السيناريو، ولو المستبعد حتى الآن، أحد دوافع التوصل إلى تسويات جزئية وحتى تسوية كبرى.