انطلقت في مجمع اللغة العربية أمس، فعاليات الموسم الثقافي الثاني والأربعين، تحت عنوان «تحقيق التراث»، الذي استهلّ بكلمة للأستاذ الدكتور «محمد عدنان» البخيت رئيس المجمع، رحّب فيها بضيوف المجمع وأعضائه، وأثنى على جهود لجنة الندوات والمحاضرات التي أعدّت مفردات هذا الموسم.
وحول موضوع تحقيق التراث، قال البخيت «تحقيق المخطوطات موضوع قديم متجدد تعقد حوله الندوات منذ قيام المخطوطات العربية التابعة لجامعة الدول العربية سنة ١٩٤٦م؛ بهدف جمعها وفهرستها، وهناك اجتهادات حول عدد المخطوطات العربية في العالم، وأشير هنا إلى عناوين غير معروفة على وجه العموم وهي الكناشات والدشت، وأذكر هذين المصطلحين لأهميتهما، حيث باشرت مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن عام ٢٠٠٣م، بتشكيل فريقين لفحص محتويات الكناشات في دار الكتب المصرية والمكتبة السليمانية باستانبول، ثم بدأ العمل يتوسع ليشمل مقتنيات بقي? المكتبات الرئيسة في العالم».
وأضاف البخيت: «يلحظ القارئ في التاريخ لدى المسلمين مبالغة الرواة والمؤرخين الكبيرة في إيراد الأعداد، بخاصة عند ذكر المعارك التي خاضتها الجيوش الإسلامية، وهذا يستوجب التوقف عند ذلك لطرح عدد من الأسئلة، ويستدعي من المؤرخ أخذ هذه الأرقام والأعداد بحذر شديد، وأن يقارن مصادره في ضوء ما تورده مصادر أخرى معاصرة أو متأخرة».
وأكّد البخيت الحاجة الماسة للنظام المتري للمكاييل والأوزان والمسافات، وأن على المؤرخين اعتماد نصوص متزامنة تسهم في الوصول إلى أرقام أدق، ومثال ذلك تحقيق النصوص العربية في زمن العثمانيين، والإفادة من المعلومات الغنية التي توردها دفاتر الطابو، حيث تذكر المدينة ومحلاتها والقرية والمزرعة والمطحنة، وكل التفاصيل المطلوبة، إضافةً إلى سجلات المحاكم الشرعية ودفاتر الأوقاف، وما تورده سجلات المحاكم الكنسيّة عن أعداد المسيحيين مقارنةً بما تقدمه دفاتر الطابو ودفاتر النفوس في القرن التاسع عشر إلى نهاية الدولة العثمانية ?ام ١٩١٨م.
واختتم قائلًا: «ونحن ندخل زمن الرقمنة فإن المتصدي لتحقيق المخطوطات بحاجة ماسّة إلى اكتساب مهارات جديدة في علم الحاسوب واللغات بخاصة لغات الشعوب الإسلامية، مما يقتضي إعداد جيل جديد من المختصين. والمجمع بدوره على استعداد لعقد دورات تدريبية لمن يرغب في هذا».
وقد تضمنت الجلسة الأولى التي ترأسها عضو المجمع الأستاذ الدكتور فتحي ملكاوي، عرضًا لبحثين: الأول بعنوان «رحلتي في تحقيق التراث ونقده»، قدمه عضو المجمع الأستاذ الدكتور يوسف بكّار، والثاني بعنوان «تجربتي مع تحقيق كتاب الفلاحة الأندلسية لابن العوام»، قدمه عضو المجمع الأستاذ الدكتور سمير الدروبي.
وتحدث الدكتور بكار في بحثه عن أن إحياء التراث تحقيقًا وجمعًا ودراسةً واجب علمي وقومي وإنساني على كل أمة لكي يتسنى لنا أن نفهم الفكر العربي والحضارة الإسلامية، لنفضي إلى ما يستحق القبول والرفض والتجديد والعرض عرضًا معاصرًا؛ فقد وصل الآخر الغربي قديمه بحديثه في تحقيق الآثار اليونانية والرومانية قبل أن ينقل المستشرقون «صناعة» التحقيق إلى تراثنا ويعنون به قبلنا.
وعن تجربته في تحقيق التراث ونقده، قال: » ليس «كلّ موروث يجب إحياؤه، وتحقيقه بالمعنى الدقيق؛ فإحسان عبّاس يرى أن الكتب التي تستحق التحقيق قليلة، وفيها الغث والسمين»، ولذا أخذت أعمالي في التحقيق وجمع الشعر تصدر تباعًا منذ العام ١٩٧٩م، مفيدًا فيها مما قرأته واطلعت عليه من الموروث الذي تأسست فيه، وقد أنجزت في التحقيق أعمالًا كاملةً وأجزاءً من بعض الأعمال الكاملة، وكان مجموع ما استدركته مئتين وثمانين عملًا من كتاب وبحث ومقالة، وعدد آخر يقترب من المئة. آمل أن يضمها جميعًا كتاب واحد يصدر في مستقبل الأيام».
وأشار الدكتور سمير الدروبي في بحثه إلى أن تجربته مع كتاب تحقيق كتاب الفلاحة الأندلسية تجربة غنية وفريدة، فقد استطاع من خلالها الوقوف على أهم الأسس العلمية التي بني عليها علم الفلاحة، والإفادة من المعلومات الغزيرة في علم النبات والحيوان التي تشكل موسوعةً فلاحيةً ضخمةً، والاطلاع على الجهود العظيمة التي بذلها الكلدانيون والسريان واليونان والرومان والعرب وإنجازات علماء الفلاحين في الأندلس في هذا المضمار.
ثم بيّن الدروبي أن ابن العوام كان يؤلف كتبه على أساس يجمع بين التبحر العلمي في الكتب الإغريقية والعربية، وبين المعارف العلمية العميقة التي استفادها من التجارب المباشرة، وهو يقدم وصفًا دقيقًا لعدد يبلغ ٥٨٥ نوعًا من النباتات ذكر من بينها خمسةً وخمسين نوعًا من الأشجار المثمرة، وغيرها الكثير.
وأضاف: «إن فلاحة ابن العوام تقوم على منهج علمي صارم رفض فيه صاحبه السحر والعزائم والطلسمات التي تسربت الى فلاحة النبط واليونان، وآمن بالتجربة المبنية عى الرصد والملاحظة، وتسجيل النتائج».
وأثنى الدروبي على جهود فريق عمل تحقيق الكتاب، وأشار إلى منهجية العمل التي تمثلت في قسمي الكتاب وفصوله الستة المتضمنة دلالة لفظة الفلاحة وحياة مؤلفه ومصادر الكتاب، وأهميته وقيمته العلمية ونشراته وترجماته ونسخته الخطية، ومنهجية العمل في التحقيق، كما أورد آراء وأقوال جملة من العلماء في تحقيق الكتاب، وأصداء نشرة مجمع اللغة العربية لكتاب الفلاحة لابن العوام.
وتضمنت الجلسة الثانية التي ترأسها عضو المجمع الأستاذ الدكتور محمد حوّر، عرضًا لبحثين: الأول قدمه الدكتور عمر القيام، من جامعة الزرقاء، بعنوان «فقه التحقيق بين عبدالسلام هارون وإحسان عباس»، والثاني قدمه الدكتور المهدي عيد الرواضية من الجامعة الأردنية، بعنوان «العلاقة المتبادلة بين كتب التراجم وكتب الجغرافيا والرحلات في التعريف بالأعلام البشرية والمكانية».
وتحدث الدكتور عمر القيام في بحثه عن اثنين من أعلام التحقيق في العصر الحديث، هما الأستاذ المحقق عبد السلام هارون، والأستاذ الدكتور إحسان عباس، اللذان كان لهما إسهام غزير ومتنوع في تحقيق التراث، وأنهما- ونظرًا لضخامة المنجز العلمي لكليهما- فقد اختار الباحث منطقة مشتركة بينهما هي شروح الشعر الجاهلي، ومنها شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات بشرح ابن الانباري وتحقيق عبد السلام هارون، وشرح ديوان لبيد بن ربيعة لأبي الحسن الطوسي بتحقيق إحسان عباس.
وأضاف: «إن كلا الشارحين ينتمي إلى المدرسة الكوفية، بحيث يكون البحث محصورًا في هذه المساحة لتفحّص القيم المنهجية والمرجعيات العلمية والمعطيات الأخلاقية لشخصية المحقق من خلال هذا العمل لكل واحد منهما، بحيث يكون ذلك نموذجًا مختارًا من عشرات الكتب التي اضطلع المحققان بأعباء تحقيقها، وذلك بالوقوف على الفروق المنهجية الدقيقة بين المحققَين والناشئة عن اختلاف الرؤية المنهجية لكل منهما، حيث ظهر بقوة طغيان نزعة الشرح والتفسير والتأثر بمناهج المحدّثين في عمل الأستاذ عبد السلام هارون، في حين بدا واضحًا النزوع إلى الاق?صاد في الشرح لدى الدكتور إحسان عباس تأثرًا بالمنهجية الاستشراقية التي كانت تُعنى بإخراج النص التراثي المخطوط صحيحًا في المقام الأول».
وتحدث الدكتور الرواضية في بحثه عن المؤلفات الكثيرة التي صنّفها العرب والمسلمون في العلوم وحقول المعرفة، وتحديدًا المؤلفات المخصوصة للتعريف بالبلدان والأماكن، إلى جانب كتب الرجال والتراجم والطبقات التي ظهرت وانبعثت لأجل تعقُّب رجال الحديث النبوي الشريف ورواته، وتمييز الثقات منهم عن الضعفاء والمتروكين والكَذَبة.
وأضاف: «وكان من وسائلها في ذلك ضبط تاريخ المولد ومكان الولادة، ثم تطور التأليف فيه ليشمل فئات أخرى؛ كالخلفاء والحكام والعلماء والأدباء والشعراء والنحاة والقراء والمفسرين والأطباء، ومن جرى مجراهم، وتضمنت هذه الكتب إفادات عن البلدان والمواضع في ثنايا تعرُّضها للأعلام وبسط ترجمتهم.
وبيّن الدكتور الرواضية الهدف من بحثه قائلًا: » إن هذه الورقة بيان على أهمية كتب التراجم في تقديم معلومات جغرافية عن المدن والبلدان، والتعريف ببعض المواضع والأماكن، وأهمية كتب الجغرافيا والرحلات في الترجمة للأعلام، وبيان العلاقة المتبادلة بينهما، وتقديم نماذج دالة على خدمة كل نوع للآخر.
وترأس الجلسة الختامية عضو المجمع الأستاذ الدكتور إبراهيم السعافين وتلا فيها البيان الختامي والتوصيات التي كان أهمها: الاعتناء بتحقيق التّراث ونشره وفقًا للأسس العلميّة للتّحقيق، وبذل وسع الطّاقة في خدمة النصّ بدءًا من محاولة استقصاء المخطوطات في مظانّها المختلفة إلى تقديم النصّ وإخراجه على أحسن وجه ممكن، وتحقيق ما يضيف جديدًا ومهمًّا إلى العلم والمعرفة، وعدم اللّجوء إلى تحقيق المحقّق إلاّ إذا كان ثمّة مسوّغ علمي ومعرفي جديّ وحقيقيّ، وضرورة إعادة القراءة النقدية لجهود الرواد الأوائل من المحققين لاستلهام الق?م العلمية والأخلاقية لعلم التحقيق، وإعادة النظر في الحالة المقلقة التي وصل إليها علم التحقيق بسبب كثرة المشتغلين فيه من غير ذوي الخبرة، وإنشاء مركز متقدم لعلم التحقيق يقدم دورات نظرية وتطبيقية لإعداد أجيال متمرسة بفن التحقيق، وضرورة أن تجتمع لدى محققي كتب التراجم العربية المعرفة بالنطاق الجغرافي للأعلام المترجَم لهم، ومراجعة نسبة الرجال على المصادر الجغرافية المتعلقة بهم لضبط نسبتهم، وتجاوز ما قد يتسرب إليها من تحريف وتصحيف، وكذا ضرورة استعانة محققي كتب الجغرافية والرحلات التي تتضمن أعلاماً بشرية بكتب التر?جم والأنساب وكتب المشتبه ومعارضة النص التراثي عليها ضبطاً للأسماء وتثبتاً من صحة نسبتها، وإعادة نشر كتاب الفلاحة بالتعاون مع دار نشر مرموقة والاهتمام به في مجال النشر الإلكتروني في المجالات كافّة، وعقد مؤتمر دولي عن علوم الفلاحة ولغتها عند العرب، بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والتعاون والعلوم.