في الحوادث والأزمات الكبرى التي تتعرض لها الدول والشعوب، تتأثر الصور الذهنية لهذه الدول سلباً وإيجاباً من خلال تعاطي مؤسسات هذه الدول وأجهزتها مع هذه الحوادث والأزمات سواء بإظهار جاهزيتها واستعدادها المسبق لإدارة الأزمات والأحداث الطارئة، أو فشلها في ذلك. والحديث عن مسألة سمعة الدول هنا ليس نوعاً من الرفاه السياسي والاستراتيجي، بل يندرج ضمن أولويات الدول بحكم تأثيره في مصالحها وعلاقاتها الدولية، حيث تلعب السمعة دوراً مهماً في تحقيق الأهداف الدبلوماسية والاستراتيجية للدول، حيث تتأثر السمعة بالكثير من الأمور والاعتبارات، لاسيما ما يتعلق منها بالهيبة والمكانة، ولاسيما الأمور الأمنية والعسكرية. وغني عن القول هنا أن صورة الدول وسمعتها هي جزء لا يتجزأ من قوتها الشاملة، على الأقل في مجال الردع على الصعيد العسكري، وهي النقطة الأكثر حساسية فيما يتعلق بإيران.
في حادث سقوط مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي ووفاة كل من كان على متنها، تأثرت سمعة إيران سلباً وعلى أكثر من مستوى، واللافت أن هذا التأثر قد جاء بعد محاولة إيران الظهور بمظهر القوة الاقليمية القادرة على ردع منافسيها من خلال الهجوم الذي شنته بالمسيرات على دولة إسرائيل في الثالث عشر من أبريل الماضي، حيث كان الحادث أقرب إلى استعراض القدرات التقنية النوعية في مجال المسيرات منه إلى الرد على القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق، والذي تسبب في مقتل 16 شخصًا، من بينهم قائد كبير في فيلق القدس التابع للحرس الثوري، وهو العميد محمد رضا زاهدي ونائبه وسبعة ضباط آخرين في ميلشيا الحرس.
ماحدث منذ الدقائق الأولى للإعلان عن سقوط طائرة الرئيس الإيراني لا يعكس في مجمله صورة ايجابية لإيران كقوة اقليمية كبرى، أو هكذا تريد الترويج لنفسها، ولا يتماهى كذلك مع كونها دولة تطمح لامتلاك قدرات نووية مزدوجة مدنية/ عسكرية، فضلاً عما تتحدث عنه دائماً من تقدم نوعي في مجال صناعة المسيرّات والصواريخ وإطلاق الأقمار الصناعية وغير ذلك من أمور تستوجب وجود قدرات معرفية وعلمية وبحثية متطورة، فقد اكتشف العالم أن مؤسسات الطوارىء والأزمات الإيرانية لا تمتلك أجهزة تمكنها من تحديد موقع سقوط الطائرة الرئاسية، رغم أن الطائرة قد سقطت على الأرض في داخل البلاد وليست في أعماق البحار على سبيل المثال، وأن الأمر يتعلق بضباب كثيف وأجهزة رؤية ليلية وكاميرات تصوير متقدمة، وهو ما أسهمت في توفيره تركيا عبر المسيرة “بيرقدار ـ أكينجي” الذي تمكنت من تحديد نقطتين محتملتين للموقع ماساعد المسيرات الإيرانية فيما بعد على تحديد أدق لإحداثيات الموقع.
ورغم كبرياء النظام وعناده في أزمات سابقة رفض فيها طلب دعم خارجي، وضحى بالبشر في حوادث زلازل وغيرها متمسكاً برفض عروض المساعدة المقدمة، فقد قبل هذه المرة بالدعم الذي قدمته تركيا وروسيا بل طلب من الاتحاد الأوروبي تفعيل نظام الخرائط للمساعدة في العثور على الطائرة المفقود، كما قالت الولايات المتحدة أنها تلقت طلب مساعدة إيراني لم تستجب له “لأسباب لوجستية”.
وقد أدركت إيران على الفور أن الأمر لا يتعلق بالدعم التقني فقط بل بسمعة الدولة وصورتها الذهنية، لذلك فقد بادر قادة الحرس الثوري إلى توجيه الشكر للمساعدة التركية بموازاة التأكيد على أن المسيرات الإيرانية هي من حددت بدقة موقع حطام الطائرة الرئاسية ولكن تركيا كانت قد نشرت عالمياً خبر نجاح مسيرتها المتطورة في تحديد الموقع المحتمل للطائرة، ما يصب فعلياً في تعزيز سمعة صناعتها العسكرية، لاسيما أن هذه المسيرة المزودة بمستشعرات الأشعة تحت الحمراء التي تتيح لها التقاط الحرارة المنبعثة من الأجسام وتُحوِّلها إلى صور مرئية. وتُعد هذه القدرة ضرورية لاكتشاف البصمات الحرارية الصادرة من المركبات والأشخاص والأشياء الأخرى، خاصة في ظروف الإضاءة المنخفضة أو الليل أو حالات الطقس السيئة، كما تمتلك قدرات على التصوير بعيد المدى، حيث يمكنها تحديد الأهداف وتتبعها من مسافة بعيدة، وهو أمر بالغ الأهمية في الظروف البيئية الصعبة خصوصا، كما حصل في حالة طائرة الرئيس الإيراني.
استغرب العالم استمرار عمليات البحث عن حطام طائرة الرئاسة الإيرانية نحو 15 ساعة متواصلة، وهو ما أسهم في انحسار الأمل لدى الجميع في انقاذ ركابها بالنظر لسقوطهم في منطقة جبلية وعرة طيلة هذه الساعات، وهو أمر يكشف تواضع القدرات الإيرانية في مجال الانقاذ والطوارىء وإدارة الأزمات، لاسيما في بلد تتسم طبيعته الطبوغرافية بالجبال الشاهقة والتضاريس الصعبة، حيث يفترض أن يكون هناك معدات وأدوات وتجهيزات استباقية للعمل في مثل هذه الظروف، ما أظهر إيران في صورة دولة هشة تشبه في ردود فعلها حيال الحادث تصرفات حركة طالبان في التعامل مع ضحايا الفيضانات الذين كانت تبحث عنهم بمعدات بدائية ومن فوق ظهر الدواب!
سؤال القدرات الإيرانية يتعلق أيضاً بشكل استباقي بتطبيق بروتوكولات حماية القادة والرؤساء ودور الأجهزة الأمنية في اتخاذ قرارات السفر والطيران والتيقن من سلامة الرحلات وتأمين الطائرات وتزويدها بكل سبل الأمان والاتصال اللازمة، فضلاً عن عدم مرافقة أي طائرة عسكرية أخرى للطائرة الرئاسية في رحلتها وهذا أمر مثير للاستغراب، لاسيما أن أبجديات التحوط الأمني تقول بضرورة ذلك في ظل رحلة الطائرة على الحدود الإيرانية الأذرية، والوجود الاستخباراتي المكثف لإسرائيل في هذه المنطقة الحيوية ليس سراً على أحد.
سمعة إيران تأثرت سلباً وبشكل كبير جراء اختفاء المروحية الرئاسية وعدم قدرة الدولة الإيرانية بكل مؤسساتها، بما فيها الحرس الثوري، على اكتشاف موقع سقوطها، وغياب القدرة على تحديد لا موقع الطائرة ولا موقع هواتف ركاب من قيادات الدولة يفترض أن يكون من بينهم أو جميعهم لديه هواتف تعمل بالأقمار الصناعية، واستمرار عمليات البحث لنحو 15 ساعة، والتساؤلات الأكثر إلحاحاً تتعلق بدوافع القيام بالرحلة وسط كل هذه الظروف وفي ظل العلم المسبق بمحدودية الامكانيات والقدرات سواء للطائرة نفسها أو للتعامل مع أي أزمة قد تنشأ جراء الطقس الجوي ووعورة التضاريس.