عروبة الإخباري –
اندبندنت عربية – نيرمين علي –
ربما تستهوي صورة غرفة صغيرة تظهر نافذتها طقساً شتائياً ماطراً وعلى يساره مكتبة ومدفأة وأريكة مريحة مع كوب من القهوة الكلاسيكية الدافئة، مخيلة معظم البشر بصرف النظر عن مدى حبهم للقراءة، لكن الأكيد أن الرغبة في عيش الحالة تختلف تماماً عن القيام بالسلوك ذاته، لذلك من الممكن أن نجد مكتبة جذابة جداً في بيت لا يقرأ سكانه.
جزء من ديكور المنزل
فالبعض يحلم بتصميم ركن في غرفة بيضاء عصرية الطراز يشبه ما نراه في الصور الملتقطة بعناية لمكتبات كبيرة مرصوفة بمئات الكتب من أعلى السقف إلى أسفل الأرضية، فالحقيقة أن تخصيص رفوف منسقة بالكتب والمجلدات يستهوي كثراً عند انتقالهم إلى منزل جديد.
بعيداً من هذا المشهد فإن الواقع مختلف تماماً عن الأمنيات، إذ إن هذه الأمنية تتطلب موازنة جيدة قد تتجاوز كلفة مجموعة من قطع وتفاصيل الديكور الأخرى، علاوة على أن اختيار الكتب لغير القارئ صعب جداً، وهنا تقول ريتا إنها حرصت أثناء تخطيط ديكور منزلها على تخصيص ركن خاص للمكتبة، و”لأني لم أنتم يوماً لشريحة القراء، كلفت أحد أقاربي بمهمة اختيار الكتب، لكي يصنفها ضمن مجموعات موحدة اللون، لإضفاء طابع جمالي على الديكور”.
الإرث العبء
أما المكتبة بالنسبة إلى عشاق القراءة فمكان للمغامرة والاكتشاف، إذ لا يمكن أن تسقط عين القارئ على رفوف كتب ويمر إلى جانبها مرور الكرام، فهو لا يمكن أن يراها جزءاً من ديكور المكان فحسب، وغالباً ما انجذب الكتاب إلى فكرة المكتبة مفتونين بإحساس الغموض المقدس، تحتلهم الرغبة في السيطرة المعرفية حتى إن البعض يجد في الكتب حياة كاملة، كما قصة مكتبة بابل لخورخي لويس بورخيس، التي تفترض الكون على شكل مكتبة واسعة تحوي جميع الكتب الممكنة على صورة متاهة لا نهائية من الغرف السداسية.
يقول أحمد، موظف في شركة خاصة، “اعتدت منذ بداية عملي على تخصيص مبلغين، واحد شهري بغرض شراء كتاب كل شهر، وآخر سنوي لزيارة المكتبات التي تقام موسمياً واستغلال العروض ونسب الخصم العالية، إضافة إلى اقتناص فرصة اقتناء المجلدات والمجلات القديمة التي كانت تعرض بأسعار زهيدة، وبذلك أصبح لديَّ مكتبة كبيرة في منزل العائلة، كثيراً ما حلمت بطريقة نقلها وتنسيقها في منزلي الخاص، لكن زوجتي عارضت وجود المكتبة في المنزل واصفة الكتب بـ(الكراكيب)، إلى أن وصلنا إلى حل وسط وافقت من خلاله على تخصيص رف متواضع لبعض الكتب، وألزمت أنا بترتيب باقي الكتب في كراتين ووضعها على السقيفة”.
بينما يقول جورج، الذي يعمل في مجال الأنتيك، “عشت في منزل أبوين كانت الكتب الجزء الأهم من حياتهما، فشكل اهتمامهما المشترك مكتبة ضخمة على طول الجدار وعرضه، لكن بعد رحيلهما بقي إرثهما جاثماً في منزل العائلة المهجور في مدينة حمص السورية”.
ويضيف “في حين أنه لم يصب أي منا بعدوى القراءة هذه، سوى أخي الكبير الذي اختار عدداً من الكتب النادرة والثمينة ونقلها إلى منزله في بيروت، ولكونها تشكل في ذاكرتنا أكثر من مجرد إرث يداومنا الشعور بالتأنيب اتجاهها، لذا نفضل تجاهل وجودها على التخلص منها، وبذلك بقيت المكتبة في المنزل يأكلها الغبار ويتلف أوراقها”.
الحبر الإلكتروني
ولكن الأكيد أن عصر الإنترنت غير طريقة وشكل اكتناز الكتب واستسقاء المعرفة، فاليوم يمكننا الوصول إلى كل شيء من بعد، بل العثور على أشياء نفتقدها في محيطنا، ولا ريب في أن المكتبة الإلكترونية قدمت فائدة كبرى للباحثين والكتاب، وأغنتهم عن تكديس المجلدات الكبيرة، إذ غالباً ما يحتاج الباحث في كتاباته لمقطع صغير يستخرجه من مجلد ضخم.
جاء الكتاب الإلكتروني بأداة سحرية تنظم عملية ترتيب وتنسيق الكتب وتوفر مساحات تخزين، ومن ناحية أخرى توفر على الكاتب كثيراً من الوقت أثناء العثور على المقطع المطلوب، لكن الأكيد أن لا غنى له عن الكتاب الورقي.
وفي حال أراد القارئ المقارنة بين الكتاب الورقي ونظيره الإلكتروني من ناحية الكلفة والوفرة، يقع أمام مفارقة كبيرة وصراع حقيقي بين حبه لاقتناء الكتب والقراءة من الورق مباشرة وانعدام الحاجة إلى هذا السلوك في عصر يوفر له الكتاب بضغطة زر.
يقول رامي وهو من محبي القراءة منذ طفولته “أحصل على الكتاب بصيغة (بي دي أف) أولاً، لكي ألقي نظرة على محتواه وفي حال أعجبني أسارع إلى اقتنائه ورقياً، إذ إن لا مجال للمقارنة بين القراءة من الورق والقراءة من خلال شاشة إلكترونية”.
لذا يلجأ كثر لاقتناء “الكندل” كحل وسط، يغنيهم عن تكديس الكتب في منازلهم من جهة، ويأتي كبديل جيد للكتاب الورقي نسبة لاعتماده على الحبر الإلكتروني الذي يوفر شاشة تظهر الكتاب بصورة قريبة جداً من ماهية الورق مع إضاءة مناسبة وحجم خط وخيارات تعديل مخصصة، مما يضمن راحة للنظر وحماية العين من الشاشة الزرقاء، إضافة إلى كونه يوصل القارئ إلى جزء من علاقته الحميمية مع الورق.
البيئة الفكرية
ومن نافلة القول تأكيد مدى أهمية وجود الكتاب في المنزل، فالأطفال الذين يكبرون مع الكتب وضمن بيئة فكرية تعكسها المجلدات الغنية بالمعارف يجنون فوائد ملموسة وميزات هائلة في حياتهم العملية والاجتماعية، حتى إن هناك علاقة طردية بين حجم المكتبة المنزلية ومدى تأثيرها في التحصيل العلمي للأبناء، وأن الطفل الذي ينتمي إلى عائلة غنية بالكتب لديه احتمالية أكبر لإكمال الجامعة مقارنة بطفل مماثل ينشأ من دون مكتبة منزلية.
وبحسب الدراسات فإن النشأة في منزل يحوي مئات الكتب من شأنه أن يمنح الشخص سنوات إضافية في التعليم، مقارنة بالتربية في منزل مماثل مع عدد قليل من الكتب أو عدم وجودها على الإطلاق.
والحقيقة أنه في كثير من الحالات يعد عدد الكتب انعكاساً صريحاً للثقافة العلمية للأسرة، إذ تصبح الثقافة في المنازل التي تكثر فيها الكتب وتحظى بالتقدير والقراءة والاستمتاع طريقة حياة، وفي هذا الإطار خلص الباحثون إلى أن الانغماس المبكر في مثل هذه الثقافة يزود الأبناء بمهارات وكفاءات مفيدة في المدرسة، أو يولد في أقل تقدير حالة من تفضيل الكتب والقراءة والاستمتاع بها، مما يجعل عملية التعليم أكثر إتاحة ومتعة.
لذا ليس من الضروري أن يكون الأب والأم مثقفين لكي يحرصا على توفير الكتب في المنزل، بل لأن كل ما عليهما فعله هو توفير الكتب ومحاولة قراءتها أو احترامها في أقل تقدير، لنقل حب القراءة إلى أطفالهما، مستشهدين بمقولة لـ”آنا كويندلين” صاحبة “كيف غيرت القراءة حياتي”، “سأكون أكثر اطمئناناً في حال كبر أطفالي في بيئة تجعلهم من النوع الذي يعتقد أن الديكور يتكون في الغالب من بناء عدد كاف من أرفف الكتب”.