عروبة الإخباري –
رغم أنها تصنف الحليف من خارج حلف الناتو، إلا أن أي من حلفاء الولايات المتحدة لم يحصل على دعمها كما حصلت عليه إسرائيل. ويعد الارتباط الثنائي القوى بين البلدين على المستوى الإقتصادي والصناعي والعسكري والأكاديمي، وهي قضايا مترابطة ومتقاطعة بشكل كبير، عاملاً مكملاً في ترسيخ علاقة البلدين بشكل تدريجي وتراكمي، الأمر الذي أضاف بعداً آخر، بالإضافة للتأثير الديني التاريخي والاستراتيجي، ودعم الإنجيليين، ودور اللوبي الصهيوني، في تلك العلاقة الفريدة بينهما. منذ ظهورها، حصلت إسرائيل على أكثر من ١٥٠ مليار دولار كمساعدات ثنائية، في مختلف المجالات، الأمر الذي جعلها الدولة الأكثر استفادة من المساعدات في العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وركزت تلك المساعدات بشكل أساسي على الجانب العسكري والأمني، بشكل يضمن الحفاظ على تعهد واشنطن بتوفير قدرات نوعية لإسرائيل. ورغم تلك المساعدات، تعد إسرائيل شريكة للولايات المتحدة على المستوى الاقتصادي والعسكري والأكاديمي. فعلاقة الشراكة بين البلدين استثنائية، انطلاقاً إلى أنها تجمع بين القطب الأقوى اقتصادياً وعسكرياً في العالم وبين بلد صغير كاسرائيل.
وتركز العلاقات الاقتصادية بين البلدين على التجارة الثنائية والتي تبلغ قيمتها ما يقرب من ٥٠ مليار دولار من السلع والخدمات سنويًا، مما يجعل الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري لإسرائيل. وتحصل إسرائيل وحدها على حوالي ٢٠ في المائة من صادرات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. كما تعد الولايات المتحدة أكبر مستثمر مباشر في إسرائيل. وتوصف الاستثمارت الإسرائيلية في الولايات المتحدة بالضخمة، وتوجه تلك الاستثمارات المتبادلة في المقام الأول نحو قطاع الصناعات التحويلية. وأبرمت الولايات المتحدة واسرائيل اتفاقية تجارة حرة في العام ١٩٨٥، وهي بمثابة الأساس لتوسيع التجارة والاستثمار بين البلدين. وأدى الدعم الاقتصادي لاسرائيل لاعتبارها من بين الدول الصناعية المتقدمة والغنية وذات الدخل المرتفع. وتمتلك إسرائيل اليوم أكبر عدد من الشركات الناشئة في العالم، مقارنة بعدد السكان، وتعرف بالدولة الرائدة في مجال الإبتكار. وحرصت الولايات المتحدة على دعم الاقتصاد الإسرائيلي، فبلغ مجمل مساعداتها الاقتصادية منذ إقامة إسرائيب حتى العام ٢٠٢٠، حوالي ٣٤.٣ مليار دولار. ولم يقتصر الدعم الأميركي على ذلك الرسمي فقط، فحصلت إسرائيل على مساعدات من مؤسسات وجمعيات أهلية أميركية تقدر قيمتها نفس حجم تلك الرسمية. وعززت الولايات المتحدة من برنامج القروض طويلة الأمد ضمن شروط مخففة لإسرائيل منذ العام ١٩٧٢، كشكل من أشكال المساعدة الإقتصادية غير مباشرة لإسرائيل.
وتقوم بين البلدين شراكة دفاعية عميقة، تتضمن البحث والتطوير المشترك وإنتاج الأسلحة. وبلغ حجم المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل منذ إقامة إسرائيبا حتى العام ٢٠٢٣، حوالي ١١٤.٤ مليار دولار، إضافة إلى نحو ٩.٩ مليار دولار للدفاع الصاروخي. وساهمت المساعدات والأسلحة المتطورة التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل في وضع الجيش الإسرائيلي ضمن أكثر الجيوش تقدماً في العالم، وتشييد قاعدة تصنيع دفاعية متقدمة جعلها من بين أهم الدول المصدرة للسلاح. وتفسر تلك الشراكة العسكرية الفريدة بين البلدين فشل مساعي نتنياهو لنسج علاقات متنامية اقتصادية وعسكرية مع الصين، بعد أن أقر نتنياهو بعدم قدرة بلاده على مشاركة أسرار التقنيات العسكرية والاستخباراتية مع الصين، انطلاقاً من قيود شراكة بلاده مع الولايات المتحدة.
منذ العام ١٩٥٨ بدأت إسرائيل بالحصول على مساعدات أمنية وعسكرية من الولايات المتحدة، ثم تحولت لمساعدات دائمة بعد حرب عام ١٩٦٧، بعد انخفاض العلاقات الاسرائيلية الأمنية مع فرنسا. وشكلت حرب عام ١٩٧٣ مرحلة بارزة في الدعم العسكري الأميركي، توج بوصوله للذروة في ذلك الوقت بعد معاهدة السلام مع مصر في العام ١٩٧٩. في العام ١٩٨١ قال وزير الخارجية الأميركية في حينه ألكسندر هيغ في خطابه أمام الكونغرس إن “أحد الجوانب الأساسية للسياسة الأميركية منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣ هو ضمان احتفاظ إسرائيل بتفوق عسكري نوعي”. ومنذ ذلك الوقت حرص الكونغرس على سن تشريعات تضمن التفوق العسكري النوعي لإسرائيل، اذ لا يمكن لأي صفقة عسكرية أن تمر لدول المنطقة من دون مراعاة مصالح إسرائيل.
في العام ١٩٨٥، جرى الاتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل على منحة سنوية بلغت قيمتها ٣ مليارات دولار سنوياً، وجهت معظمها لغايات الأمن وشراء المعدات العسكرية. ومنذ العام ٢٠١١، قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل ٣.٤ مليار دولار سنوياً لتمويل الدفاع الصاروخي، بما في ذلك ١.٣ مليار دولار لدعم القبة الحديدية. ويستخدم نظام القبة الحديدية، الذي تمول الولايات المتحدة جزء كبير منه، أجزاء يتم تصنيعها أميركياً. وفي عام ٢٠١٦ وقعت الحكومتان الأميركية والإسرائيلية مذكرة تفاهم مدتها ١٠ سنوات بشأن المساعدات العسكرية، تمتد ما بين العامين ٢٠١٩ و٢٠٢٨، تعهدت بموجبها الولايات المتحدة بتقديم ٣٨ مليار دولار من المساعدات العسكرية لإسرائيل مقسمة إلى ٣٣ مليار دولار من منح التمويل العسكري الأجنبي و٥ مليارات دولار للدفاع الصاروخي. يأتي ذلك بالإضافة إلى المساعدات وقت الطوارئ، التي شهدها العالم خلال حرب غزة الجارية.
وبدأت الولايات المتحدة بتخزين المعدات العسكرية في إسرائيل منذ العام ١٩٨٤، لتستخدمها في حروبها في المنطقة، ثم قامت إدارة الرئيس جورج بوش الأب بتغيير شروط تلك المخازن في العام ١٩٨٩، فسمحت لإسرائيل باستخدام مخزون الطوارئ الأميركية في إسرائيل في حالات الطوارئ. وقد طلبت إسرائيل الوصول إلى المخزون مرتين على الأقل، أثناء حرب صيف ٢٠٠٦ مع حزب الله، وفي العام ٢٠١٤ في غزة، وقد يكون في الحرب الحالية أيضاً. وساهمت المساعدات الأميركية في تأسيس قاعدة صناعة دفاعية محلية إسرائيلية، أصبحت إسرائيل على أساسها تصنّف على أنها واحدة من أكبر مصدري الأسلحة على مستوى العالم، إذ تقوم شركات الدفاع الإسرائيلية بتصدير ما يقارب ٧٠ في المائة من منتجاتها، لدرجة أن الجيش الأميركي قد اشترى في العام ٢٠١٩ معدات إسرائيلية بقيمة ١.٥ مليار دولار.
بالإضافة إلى المساعدات الأمنية ومبيعات الأسلحة والتدريبات العسكرية، تتشارك الولايات المتحدة وإسرائيل في الأبحاث المشتركة وتطوير الأسلحة. وخلال العقود الأخيرة، نما التعاون الأكاديمي والتعليمي بين إسرائيل والولايات المتحدة، بصورة ضخمة خاصة في مجالات الابتكار العلمي والتكنولوجي. وتنسق الولايات المتحدة واسرائيل التبادلات العلمية والثقافية من خلال مؤسسة العلوم الثنائية، والمؤسسة الثنائية للتنمية والبحوث الزراعية، ومؤسسة التعليم الأمريكية الاسرائيلية. ومنذ العام ٢٠٠٦، نشر الأكاديميون الأميركيون والإسرائيليون أكثر من ٤٠ ألف بحث مشترك في المجالات العلمية والتكنولوجية، وتستضيف إسرائيل حوالي ٣٠٠ مركز بحث وتطوير أجنبي مملوكة لأكبر الشركات متعددة الجنسيات في العالم. ويبدو التعاون الأكاديمي بين الجامعات الأمريكية ونظيراتها من الجامعات الإسرائيلية في الشراكات البحثية، وعقود تطوير تكنولوجية، وبرامج تبادل طلابية وهيئات أكاديمية، وبالتركيز على مجالات الطاقة والتكنولوجيا والصناعات الدوائية والحيوية والغذائية، ناهيك عن المجالات العسكرية والأمنية. كما تملك كثير من الجامعات النخبوية سياسات تسهل انضمام الإسرائيليين إليها.
ترتبط تلك التقاطعات الحساسة في العلاقة بين البلدين بالمطالب الرئيسة التي سلطت الاحتجاجات الطلابية في الولايات المتحدة الضوء عليها خلال الأشهر والأيام الماضية. وتتورط العديد من الجامعات الأميركية في الانخراط باستثمارات وعلاقات مالية مع شركات تتعاون مع إسرائيل وجيش الاحتلال أو أجهزة المخابرات والأمن بشكل مباشر أو غير مباشر، في ظل نشاطات تنتهك القانون الدولي. وكشفت وزارة التعليم الأميركية بأن الاستثمار الإسرائيلي المباشر في ١٠٠ جامعة أميركية قد بلغ ٣٧٥ مليون دولار، خلال العقدين الماضيين، وهو رقم لا يعكس الواقع الحقيقي لحجم تلك الاستثمارات، في ظل عدم التزام الجامعات بالتبليغ عن الهبات التي تحصل عليها، وآلية تصريفها عبر جهات مستقلة تعمل لصالح تلك الجامعات. وتعتمد الجامعات الخاصة في إدارة حرمها وتمويل أنشطتها بالإضافة إلى أقساط الطلبة على صندوق الهبات، الذي يعتمد على التبرعات والمساهمات المؤسساتية والفردية. وتدير الجامعات عمليات إستثمار ضخمة في كبرى الشركات التجارية الرائدة في الولايات المتحدة، يعمل معظمها في الظل بحيث يصعب تتبُّع علاقتها بدقة بالكيان الإسرائيلي، فبعضها يرتبط بعقود مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية، وبعضها الآخر يرتبط معها من خلال جهات ثالثة وسيطة. ويفسر ذلك رأي عدد من الخبراء الماليين ومديري الجامعات حول صعوبة كشف وتتبع جميع الشركات المتورطة مع إسرائيل. ويقدَّر حجم استثمار صناديق الهبات في ٣٠ جامعة أميركية من أصل آلاف الجامعات والمؤسسات التعليمية الجامعية الأخرى بـ ٤٩٣ مليار دولار. وتستثمر جامعة هارفارد وكولومبيا وكاليفورنيا على سبيل المثال بمئات ملايين الدولارات من شركات إسرائيلية متورطة بانتهاك القانون الدولي.
وركزت مطالب الطلاب على قطع علاقة جامعاتهم مع الشركات المصنّعة للأسلحة التي تغذّي حروب “إسرائيل” في الأراضي المحتلة، ورفض التمويل الإسرائيلي الموجّه للأبحاث وجهود تطوير المعدّات الحربية والأدوات العسكرية، وسحب الاستثمارات من الشركات والجهات التي تربطها علاقات بشركات ومستثمرين وجهات إسرائيلية. وطالبت الحركة الطلابية كذلك بتبنّي سياسة الشفافية والكشف عن الأموال المتصلة بـ”إسرائيل” في الجامعات والأهداف التي ترتبط بها. وصنفت لجنة التبادل الأمني الفيدرالية الأمريكية سلسلة العلاقات الإقتصادية المتشابكة التي تربط الجامعات الأميركية بـ إسرائيل، كقوة احتلال متورطة بانتهاكات للقانون الدولي، بعلاقات مباشرة، تستثمر بموجبها الجامعات في شركات ومؤسسات ضالعة بشكل مباشر في الانتهاكات الإسرائيلية؛ وعلاقات غير مباشرة، تتعاون بموجبها الجامعات مع شركات ومؤسسات ضالعة في تطوير ودعم الخدمات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية؛ ونوع ثالث من العلاقات الأكاديمية التي تربط بين الجامعات الأميركية ومؤسسات تعليمية إسرائيلية. وأعدّت الأمم المتحدة في العام ٢٠٢٠ قائمة للشركات المتورطة بعلاقات مباشرة وغير مباشرة مع إسرائيل، والتي جعلت مطالب طلاب الجامعات محددة، وتنسجم مع قوانين الولايات المتحدة، التي تشترط التعاون الخارجي ضمن نطاق حماية القانون الدولي وحقوق الإنسان.
في ظل وجود قاعدة دعم ديني تاريخي لإسرائيل في الولايات المتحدة، وأسباب شراكة إستراتيجية على المستوى الخارجي، ودعم الإنجيليين السياسي لإسرائيل على المستوى الداخلي، واتساع نفوذ اللوبي الصهيوني في السياسة الداخلية وصنع القرار، يمتد ذلك النفوذ أيضاً لتقاطعات وشراكة ومصالح اقتصادية عميقة، وكذلك جميع القطاعات الحساسة بدءا بالعسكري ومروراً بالصناعي والأكاديمي. ورغم ذلك فإن مواصلة الولايات المتحدة إصرارها على دعم إسرائيل ومعادية الفلسطينيين، بالاشتراك في جريمة إبادتهم والتسبب في معاناتهم وحرمانهم من حقهم الطبيعي بالتحرر من الاحتلال وممارسة حق تقرير المصير، يجعلها تتحمل مسؤولية المأساة التي يعيشها الفلسطينيون، وسيبقى ذلك وصمة عار تهز مكانتها وقيمها، تماماً كما تحملت بريطانيا من قبل مسؤولية اصدار وعد بلفور، وتمكين اليهود في فلسطين، في انتهاك قانوني وأخلاقي لدورها كدولة كدولة انتداب. ويشكل الموقف الأميركي اليوم من حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين انتقاصاً من مكانتها كدولة عظمي، وخطراً وجودياً على مصداقية هذا الدور وشرعيته، وتشكيكاً بجميع المبادئ والقيم التي ادعتها الولايات المتحدة، وجعلتها تدعي تمايزها عن غيرها من القوى العالمية الأخرى، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعنف الاستعماري الإسرائيلي، الذي يذكر بذلك الأميركي الشبيه، الذي اقتلع الأميركيين الأصليين من أرضهم، وتحاول الولايات المتحدة عبر كل تلك السنوات الماضية الاعتذار عنه.