رغم إعلان الولايات المتحدة بشكل مفاجئ تعليق إرسال الدفعة الأخيرة من شحنة أسلحة هجومية ثقيلة لإسرائيل، تقرر إرسالها منذ أسبوعين، بحجة دخول القوات الإسرائيلية إلى رفح، تشير تصريحات الخبراء الأميركيين إلى أن دفعات أخرى من الأسلحة الهجومية قد وصلت مؤخراً لإسرائيل أو خرجت من الولايات المتحدة في طريقها اليها. كما يؤكد الخبراء العسكريون أن هذا النوع الثقيل من القنابل غير الموجهة التي تم تعليق وصولها لا تجتاحها جبهة غزة الآن، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة واصلت وعودها بتأمين وصول الأسلحة الدفاعية التي قد تحتاجها إسرائيل. وتحتفظ القيادة الأمريكية الأوروبية أيضًا في إسرائيل بمخزون احتياطي الحرب الأمريكي، والذي يمكن استخدامه لتعزيز الدفاعات الإسرائيلية في حالة الطوارئ العسكرية الكبيرة. وفي جميع الأحوال لم ينس بايدن قبل يومين في خطابه في حفل الذكرى السنوية في متحف المحرقة أن يكرر دعمه المطلق لإسرائيل وحقها بالدفاع عن النفس، وشيطنة حركة حماس، واتهام طلاب الجامعات الأميركية المؤيديين للفلسطينيين باقتراف أعمال شغب، مؤكداً رفضه السماح بأية تفاعلات طلابية معاداة للسامية. وتستمر المناورة الأميركية، ما بين المواقف الفعلية المؤيدة لسياسات إسرائيل في عدوانها على غزة، وبين تصريحات عبثية مضللة ومتضاربة، دون الاقدام على فعل حقيقي يوقف جرائم إسرائيل، ويمنع مواصلتها اجتياح رفح. وقد تكون التصريحات الأميركية الأخيرة حوّل وقف ارسال السلاح موجهة لاحتواء الرأي العام الأميركي، الذي بات غالبيته لا يؤيد طريقة تعامل الإدارة الأميركية مع عدوان الاحتلال على غزة، أو للتنصل من الجرائم التي قد تقترفها إسرائيل في رفح، في ظل عدم تقديم نتنياهو أي خطط لادارة بايدن حول حماية المدنيين خلال هجومها الحالي على رفح.
في حرب إبادة جماعية وتهجير قسري في غزة، دمرت إسرائيل القطاع بمدنه الخمسة بالكامل، وبات غير صالح للحياة الآدمية، وقتلت وأصابت أكثر من ١٠٠ ألف إنسان، وهجرت وتسببت في معاناة أكثر من مليوني شخص، على مرأى ومسمع العالم، وبدعم أميركي سياسي وعسكري، يعطي الضوء الأخضر لإسرائيل لمواصلة عدوانها على الفلسطينيين. وتواصل الولايات المتحدة دعمها لإسرائيل وحمايتها، حتى وإن كلفها ذلك التصادم مع تلك المبادئ التي طالما تغنت بحمايتها داخل حدودها. وأرسل ٢١ عضو مجلس شيوخ رسالة تهديد للمحكمة الجنائية الدولية، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة ستعاقب المحكمة إن أضرت بإسرائيل. وكانت الولايات المتحدة قد فرضت بالفعل عقوبات على المحكمة في الماضي، بعد أن باشرت التحقيق في جرائم اقترفتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. وتتعامل الولايات المتحدة بقسوة مع أبنائها من طلاب الجامعات الأميركية، الذين خرجوا رافضين لحرب الابادة الاسرائيلية ودعم بلادهم لها، واتهمتهم بمعاداة السامية، تلك التهمة التي طالما استخدمت كخط أحمر يحظر توجيه انتقاد لإسرائيل، لوأد تلك الاحتجاجات. فما سر وراء تلك العلاقات الأميركية الإسرائيلية غير العادية؟ وهل هو دعم بلا حدود؟
في هذه الأثناء تستكمل إسرائيل اجتياح مدينة رفح، رغم التحذيرات المستمرة، ومن كافة الأطراف الدولية الرسمية وغير الرسمية. ورغم تصريحات الولايات المتحدة بتأخير ارسال شحنات أسلحة لإسرائيل، وضمان أدخال الوقود والمواد الغذائية الأساسية اللازمة لاستمرار حياة الغزيين، سواء عبر معبر رفح أو كرم أبو سالم أو الميناء الجديد، إلا أنها لم تتوقف عن دعم أهداف العدوان على غزة، المتمثلة بهزيمة حركة حماس واطلاق سراح المحتجزين لدى الحركة، في تقاطع تام مع أهداف العدوان. وبررت الولايات المتحدة موقف إسرائيل عند بداية غزوها لرفح، بأنها عملية محدودة، رغم عدم حصولها على ضمانات وخطط بتجنب استهداف المدنيين، وتوفير مناطق آمنة لهم، قبل هذا الاجتياح، كما طلبت من إسرائيل. وفي حين حملت الولايات المتحدة حركة حماس قبل أيام مسؤولية فشل مفاوضات الهدنة في حال رفضها المبادرة الأخيرة، والتي وافقت عليها حركة حماس بعد ذلك، في تطور واضح في موقف الحركة، وبدل عقد مؤتمر صحفي للوسطاء لفضح ذلك التلاعب الإسرائيلي، تجاهلت الولايات المتحدة موافقة الحركة على المبادرة، وتماهت مع ادعاءات إسرائيل. وكانت قد أكدت صحيفة الفايننشال تايمز الأميركية، نقلاً عن دبلوماسي مطلع، أن الاقتراح الذي وافقت عليه حركة حماس كان مماثلا لاقتراح أيدته إسرائيل في وقت سابق، كما أكد محمد الهندي نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي أن ذلك المقترح اطلعت عليه إسرائيل من قبل، وأشاد كذلك أسامة حمدان، القيادي في حركة حماس، أن النص الذي وافقت عليه الحركة جاء معتمداً من واشنطن. ذلك التماهي الأميركي الواضح مع عدوان إسرائيل على الفلسطينيين يفسر كذلك بتجاهل اقتحام معبر رفح المخالف للاتفاقيات المبرمة مع مصر والفلسطينيين باشراف دولي، وبامعانها بإصرار منع صدور قرار عن مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزة، الأمر الذي يعني استمرار جرائم الاحتلال بحق الغزيين العزل. منذ العام 1972، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) أكثر من 50 مرة لإلغاء قرارات تنتقد إسرائيل في مجلس الأمن.
تلتزم الولايات المتحدة باسرائيل التزاماً جعل البعض يصف إسرائيل بولاية أميركية مقرها الشرق الأوسط، فموقف بايدن من إسرائيل اليوم ليس استثنائياً عن الرؤساء السابقين، لكن ما السر وراء ذلك الالتزام؟ وهل يمكن للموقف الأميركي تجاه إسرائيل أن يتبدل؟ في معادلة شديدة التعقيد تتقاطع فيها عدة عوامل لتفسر ذلك الإرتباط الأميركي الفريد والإلتزام العميق بإسرائيل، فما بين الشواهد التاريخية المرتبطة بمعتقدات دينية، وتقاطعها بعد ذلك بأهداف الولايات المتحدة الاستراتيجية الخارجية، الأمر الذي سمح بتغلغل تلك العلاقة سياسياً على المستوى الداخلي بدعم الإنجيليين لإسرائيل، وفتح للوبي الصهيوني الأبواب بعد ذلك للعب دور مهم في صميم الحياة الأميركية بمختلف أشكالها، أصبحت العلاقة بين البلدين تدريجياً مترابطة بشكل شديد التعقيد.
تاريخياً، ظهر التأييد البروتستنتي الديني لليهود قبل ظهور أميركا، وتأثر الأميركيون الأوائل، بمفاهيم دينية تكن مكانة جليلة لليهود، فانعكست في قواعد دستورية وتصريحات قيادات أميركية تاريخية، اذ جل الأميركيين ينتمون للمذهب البروتستنتي. فأحد الشعارات الأولية المقترحة لأختام الولايات المتحدة عند نشأتها، تأثرت برواية تتعلق باليهود، واعتبرت اللغة العبرية أساسية في الولايات المتحدة عند ظهورها، وكانت إجادتها شرطاً للاستمرار الدراسة في جامعات عريقة كجامعة هارفرد حتى العام 1787، وحتى اليوم يمكنك ملاحظة شعارات جامعات كبرى وكليّات عريقة مكتوبة بلغة عبرية، كجامعة ييل على سبيل المثال.
وتعكس تصريحات القيادات الأميركية ذلك الجانب الديني، بدءاً من القياديين الأوائل حتى اليوم. فاعتبر جون آدامز أن العبرانيين فعلوا الكثير لحضارة الإنسان أكثر من أي أمة أخرى. واعتبر لوودرو ويلسون أن الأمة اليهودية القديمة قدمت نموذجا للمستعمرين الأمريكي. واعتبر ليندون جونسون أن إيمانه المسيحي انبثق من إيمان اليهود. ووصف ريتشارد نيكسون دور بلاده في دعم إسرائيل يكرم تراثها. وأعاد جيمي كارتر علاقة الصداقة الفريدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل لعمق قناعات الاميركيين الدينية. وقال بوش إن الصداقة والتحالف بين البلدين مبني على أساس والتاريخ والتراث المشترك. وأكد بيل كلينتون إن علاقة البلدين ترتبط بالولاء للقيم المشتركة والتراث الديني المشترك. واعتبر باراك أوباما أن إسرائيل ولدت من قيم راسخة يتقاسمها الأميركيون. فتمتعت إسرائيل بدعم كامل من الرؤساء الأميركيين وإداراتهم، وتأييد شبه إجماعي في الكونجرس الأمريكي بمجلسيه، ولدى الغالبية العظمى من الأمريكيين.
ويمكن فهم تأثير المعتقدات الدينية في الولايات المتحدة حتى اليوم في دعم إسرائيل بتأثير الإنجيليين المسيحيين البروتستانت، والتي تعرف بالحركة المسيحية الصهيونية. وتؤمن الكثير من الجماعات الإنجيليّة بضرورة تسريع سيطرة إسرائيل الكاملة على فلسطين، والتي تعتبر أغلب فئات التيار الإنجيلي أن الدعم غير المحدود وغير المشروط لإسرائيل واجب ديني. ويقدر عدد الإنجيليين في الولايات المتحدة بأكثر من 50 مليون أميركي. وتعتبر مؤسسة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” التي تأسست في العام 1981، ويزيد عدد أعضائها عن 10 ملايين شخص، المؤسسةَ الأكبر بين مؤسسات إنجيلية عديدة هدفها الدفاع عن إسرائيل. واعتبر السفير السابق لإسرائيل في واشنطن “رون ديرمر” أن المسيحيين الإنجيليين يشكلون “العمود الفقري لدعم إسرائيل في الولايات المتحدة”.
إستراتيجياً، تبنت الولايات المتحدة إسرائيل منذ نشأتها، وكانت قد دعمت بقوة وعد بلفور، على المستوى التنفيذي الرئاسي والتشريعي. وحتى قبل صدور وعد بلفور، دعت قيادات مهمة أميركية على رأسها رئيس مجلس النواب ورئيس المحكمة العليا لعقد مؤتمر دولي، للنظر في مطالبة اليهود بفلسطين، وكان ذلك قبل تشكيل هرتسل للمؤتمر الصهيوني العالمي الأول بست سنوات. في حرب عام 1967، هزمت إسرائيل عددا من الدول العربية، إثنين منها حلفاء للاتحاد السوفيتي، في مدة قياسية، ودون مساعدة كبيرة من الولايات المتحدة، التي كانت في ذلك الوقت متورطة في حرب فيتنام، فأحدث ذلك تحولاً مهماً في نظرة واشنطن لإسرائيل، باتجاه اتخاذها حليف لمقاومة النفوذ السوفييتي في منطقة غرب آسيا، التي أولتها الولايات المتّحدة أهمية كبيرة لمكانتها الجغرافية الاستراتيجية والنفطية، في ظل سياسة الاحتواء التي سادت في تلك الفترة. وبالفعل ساعدت الولايات المتحدة إسرائيل في حرب عام 1973، ولم تسمح بهزيمتها، كحليف مهم لها في المنطقة. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حافظت الولايات المتحدة على علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل بالإضافة لحلفاء آخرين في منطقة تعد شديدة الأهمية لها. وزادت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتورط الولايات المتحدة في الحروب على الارهاب، من أهمية الارتباط الاستراتيجي الامني والعسكري الأميركي بإسرائيل في المنطقة، وحتى عندما بدأت الولايات المتحدة بالتخطيط للخروج من المنطقة منذ عهد إدارة أوباما، رسمت لإسرائيل دور رئيس فيها، امتداداً لدورها وبالتنسيق معها.
جاء تصاعد المكانة الاستراتيجة الإسرائيلية لدى واشنطن متزامناً مع تصاعد الدور والمكانة السياسية للإنجيليين منذ ثمانينيات القرن الماضي، والتي ركزت على دعم نفوذ إسرائيل في الداخل الاميركي. وسمح ذلك لتطور دور ومكانة اللوبي الصهيوني خصوصاً الإيباك داخلياً في الولايات المتحدة. ومنذ الثمانينيات من القرن الماضي ظهر تأثير إسرائيل على الساحة الداخلية الأميركية، لتوجية القرار السياسي الخارجي لصالح أهدافها، فلم يعد الأمر مجرد تعاطفاً دينياً أو شراكة استراتيجية خارجية، بل بات هناك مكانة سياسية داخلية لإسرائيل تؤثر في أروقة صنع القرار الأميركي، يوجّهها الإنجيليين واللوبي الصهيوني، وبات لإسرائيل فعلياً تأثير على الانتخابات الأميركية الرئاسية والتشريعية، وباتت فرص المعارضين لإسرائيل من المرشحين الانتخابين في الوصول للمنصب في.شدة الصعوبة.
ومن أهم الشواهد على تطور نفوذ إسرائيل السياسي في قلب أميركا، فقد كانت الإدارة الأميركية في الماضي تضغط على الحكومات الاسرائيلية لاجبارها على إتباع سياسة تنسجم مع توجهاتها، كما حدث عند توقيع إتفاقية السلام مع مصر في العام 1978، أو في الانخراط في مفاوضات مدريد في العام 1989، على غير رغبتها. إلا أنها اليوم تكاد لا تقوى الأولويات المتحدة على كبح جماح إسرائيل ومسايرة طموحاتها في المنطقة، حتى وإن تعارضت مع المصالح الأميركية. وقد يكون خير دليل على ذلك موقف نتنياهو الذي تحدى إداره أوباما، التي طالب إسرائيل بوقف الاستيطان، فتحدى نتنياهو أوباما من داخل الكونجرس وأحرجه، وترجع بعد ذلك أوباما عن طلبه. وعندما ذهب اوباما لتوقيع إتفاق مع إيران، على غير الرغبة الإسرائيلية، حاربه نتنياهو ووقف بقوة ضد الاتفاق مع إيران، وسحب ترامب بعد ذلك أي التزام اتفاقي مع إيران. وقد يقدم الموقف المحرج لإدارة بايدن اليوم في حرب غزة، دليلاً اضافياً على طبيعة هذه العلاقة المعقدة، حيث أحرج نتنياهو بايدن وإدارته العديد من المرات، ولم يستمع لنصائحها.
تبدو العلاقة الأميركية الإسرائيلية استثنائية، نسجت من تقاطع مركب بين العامل الديني والاستراتيجي والاقتصادي. فالتفاعل بين المكانة الدينية لإسرائيل وقيمتها الاستراتيجية والارتباطات العسكرية الصناعية الأكاديمية الاقتصادية العميقة ضمن وجود إجماع مؤسسي في الولايات المتحدة حول علاقتها مع إسرائيل، بغض النظر عن الحزب الحكام أو شخص الرئيس. ويبدو تلك العامل الاقتصادي عاملاً مكملا لتأثير الإنجيليين واللوبي الصهيوني في ترسيخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وهو ما قد يفسر تلك المطالبات الطلابية في الجامعات الأميركية بوقف استثمار الاقتصادية للجامعات مع الشركات الإسرائيلية، خصوصاً في المجال العسكري والصناعات التكنولوجية، وهو ما سنتناوله في الأسبوع القادم.