عروبة الإخباري –
كان جدي يحدثني وأنا من الجيل الثالث للنكبة عن الاستعمار البريطاني لفلسطين وعن ثورات الشعب الفلسطيني التي لم تهدأ من ثورة البراق عام ١٩٢٩ إلى ثورة ٣٦ وأطول إضراب في التاريخ والذي استمر قرابة ستة أشهر سطّر فيها الشعب الفلسطيني أروع صور العنفوان وكان ولا يزال يعلم العالم ما هي الثورة والثوار.
ولقد كانت النكبة عنوان آخر سمعناه من أجدادنا لنتناقله جيلاً بعد جيل لأولادنا وأحفادنا ضاحدين الفكرة الصهيونية التي روجت للعالم بأن الأرض بلا شعب لشعب بلا أرض، فرغم وجع النكبة وانكساراتها إلا أننا لم ننس وبقيت أوجاعنا في الذاكرة التي تثبتنا في ارتباطنا في هذه الأرض وتعزز هويتنا وانتماءنا بإحياء صور الأشياء والأحداث ولإعادة بناء الذاكرة الفردية إلى الذاكرة الجماعية التي أسهمت في جعل النكبة رمزاً من رموز الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني وللتاريخ الفلسطيني والعربي. فقد تركت ذكرى النكبة أثرها على بناء الهوية الوطنية الفلسطينية وجذورها في الأرض فقد كانت درساً قاسياً لمن عاشوها وتحدياً وتمسكاً لمن سمعوا عنها، فالآن أصبح الفلسطيني يفضل الموت في أرضه على أن لا يتركها ويرحل.
على أن توثيق النكبة من جيل إلى جيل بناءً على روايات الأجداد من رجال ونساء ممن عاشوا تلك المأساة ومن روايات عدد من الكُتاب والروائيين الفلسطينيين، ومنهم الروائي والكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني في روايته (عائد إلى حيفا)، ممن سردوا ووثقوا ذلك، وأقتبس منها هذا المقطع حيث يقول عن سعيد وصفية اللذين يتركان بيتهما في حيفا أثناء الحرب عام 1948 عنوة على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني، ولكنهما يعودان بعد عشرين عاماً لأنهما تركا هناك ابنهما خلدون على أمل أن يبقى الولد على عهد الآباء محتفظاً بهويته وأرضه. وتكون الصدمة القاسية والمفاجأة أن ذلك الصبي يكبر بين جنود الاحتلال، فلا يتمكن الأب من العودة إلى أرضه ولا يعود ابنه إليه!
رواية قصيرة وموجزة ولكنها عبرت بجلاء عن واحدة من أكبر مآسي الفلسطينيين تحديداً فلسطيني 48 وما يتعرضون له من طمس للهوية.
ويعد إميل حبيبي واحداً من أصوات الرواية الفلسطينية المهمة، حيث وُلد في حيفا وبقي في فلسطين رغم الاحتلال الصهيوني، وهناك كتب روايته على خلفية تلك الأحداث المأساوية القاسية التي شاهدها وعانى منها، في رواية الوقائع الغريبة وفيه استلهام تراث السرد العربي وعوالم ألف ليلة وليلة من جهة، والحكايات الشعبية من جهة أخرى.
وتحكي الرواية عن سعيد الذي يسرد حكايته على شكل خطابات إلى القارئ، فيها شيء من التهكم والسخرية بما جرى في فلسطين منذ النكبة عام 1948، وكيف تعامل الإسرائيليون مع المواطنين، وكيف دمروا قرى بأكملها واستوطنوا أماكنهم، وهو في الرواية يرمز لهم بالكائنات الفضائية التي هبطت لتأخذ أماكنهم، تتبنى الرواية طريقة السخرية ولكنها تغوص في أعماق الجرح الفلسطيني الدامي، وما جرى بعد ذلك من شتات وضياع للهوية بين مخيمات اللاجئين، ثم يحكي عن الغربة داخل فلسطين، وكيف يتحول الوطن إلى منفى، وكيف يعيش الفلسطيني إلى جوار الإسرائيلي الذي احتل بلاده وأصبح الغاصب والمحتل صاحب المكان، يبدو أن هذه الحكاية في النهاية لم يكن لها أن تروى إلا من خلال الفانتازيا والسخرية، ولكنها في النهاية رواية مؤلمة صادقة لما حدث ويحدث في فلسطين منذ ذلك الوقت.
وفي واحدة من أهم وأشهر الأعمال الروائية التي تناولت القضية الفلسطينية، وحالفها الحظ أن تحولت إلى فيلم سينمائي عام 2005 من إخراج يسري نصر الله، يسرد فيها الروائي اللبناني إلياس خوري أطرافاً من حكاية القضية الفلسطينية في فترة التسعينيات مع مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا بلبنان، حيث تحكي قصة يونس الأسدي الذي يعيش في أحد مخيمات اللاجئين ويتسلل للعودة إلى فلسطين لمقابلة زوجته نهيلة هناك في “باب الشمس”، ومن خلال حكايته نتعرف على واقع الشتات الفلسطيني، ومعاناة الحرب والألم الذي عاشه ويعيشه الفلسطينيون طوال تلك الفترة، تتضافر الحكايات في باب الشمس بين يونس وأبيه وجيرانه وأصحابه، لتعكس واقع المقاومة الفلسطينية وعلاقتها بمخيمات اللاجئين في لبنان، وما بين هذا وذلك من مشكلات وصراعات.
إن هدفي هنا في الحديث عن الرواية التي تسرد النكبة هو أن نسعى إلى نقل الرواية الفلسطينية، والرواية العربية التي تدور حول القضية الفلسطينية، وإلى استعادة الرواية الفلسطينية التي يسعى الاحتلال إلى طمسها و تدميرها ومحوها وإنكارها، من خلال الكتابة الروائية والمصادر التاريخية والوثائق، والشهادات الشخصية للفلسطينيين الذين عاشوا قبل النكبة وبعدها، فالغاية هي تقديم سردية مضادة للرواية الصهيونية، التاريخية والتخييلية، حول الوجود الفلسطيني وكلنا قد سمعنا تصريحات الوزير الإسرائيلي المتطرف سموتريش الذي يتنكر للوجود الفلسطيني وتاريخه، وفي ذلك سعيهم إلى إحلال الرواية الاسرائيلية الصهيونية محلها.