عروبة الإخباري –
بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى المؤلفة الموسيقية هبة القواس،أحيت الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية حفلة موسيقية في كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في الأشرفية، بقيادة قائد الأوركسترالألماني العالمي كريستيان شومان وعازفة البيانو الروسية الشهيرة إيفلين بيريزوفسكي، وذلك في سياق حفلات الأوركسترا التي ينظمها الكونسرفتوار الوطني دورياً لعشاق الموسيقى الكلاسيكية، بعد عودة الأوركسترا لاحتفالاتها.
حضر الاحتفال شخصيات سياسية ودبلوماسية وثقافية وإعلامية وقضائية منهم: وزير الاتصالات جوني القرم، الرئيس فؤاد السنيورة، السيدة أمينة بري ممثلة وزير الثقافة محمد وسام المرتضى، سفير بلجيكا لدى لبنان، والوزيران السابقان محمد المشنوق والياس حنا، والملحق العسكري البريطاني، والملحق الثقافي الإيطالي وجمهور كبير من محبي الموسيقى.
استُهل الاحتفال بكلمة لرئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى هبة القواس، رحبت فيها بالحضور وبالضيوف الموسيقيين قائلة: “الأمسية الليلة مميزة جداَ وخاصة أننا نستضيف مع الأوركسترا الفلهارمونية موسيقيين كباراً، قائد الأوركسترا الألماني الشهير جداً كريستيان شومان، وعازفة البيانو الروسية البريطانية المتألقة على مسارح العالم إيفلين بيريزوفسكي. وأضافت: “بينما لبنان والمنطقة يمرّان بظروف دقيقة وصعبة، نحن اليوم نمدّ جسور الثقافة والموسيقى، لنقول مرة جديدة إن الموسيقى والدبلوماسية الثقافية بأبهى حلة تنقلان صورة لبنان الحضارية للعالم، وتجسدان المقاومة الثقافية التي تقول إن لبنان لا يتغير، فهو الذي يسكن التاريخ ويصنع الحاضر ويكتب المستقبل. هذا دور الكونسرفتوار الوطني والأوركسترا الفلهارمونية واليوم مميز جداً بموسيقييه وضيوفه، وحضوركم الذي يجسد جزءاً من هذه المقاومة الثقافية وإرادة الحياة والتطلع إلى المستقبل والموسيقى التي تصنع الحياة الحقيقية”.
بعدها اعتلى المايستروكريستيان شومان المسرح، وهو أحد أبرز قادة الأوركسترا المعاصرين أوبرالياً وسيمفونيّاً،عمل مع عدد من أهم الأوركسترات العالمية منها: أوركسترا فلهارمونيا في “رويال فيستيفال هول”، وأوركسترا لندن الفلهارمونيّة وبروكسيل الفلهارمونية وغيرها. وذلك بعد ما لمع اسمه عالمياً إثر حصوله على الجائزة الأولى في المسابقة الدولية للقيادة في بودابست. وبالإضافة إلى كونه رائداً في عالم الموسيقى المعاصرة، كذلك قاد شومان العديد من تسجيلات الأفلام المهمة عالمياً. وهو من وصفته الصحافة الغربية بـ “النجم الساطع لجيل قادة الأوركسترا الألمان المعاصرين”.
مع تشايكوفسكي افتتحت الأوركسترا الأمسية محلّقة بأدائها برفقة عصا قيادة شومان مع مختارات من (The Nutcraker Suite) الشهيرة، وهي الثالثة والأخيرة التي كتبها تشايكوفسكي للباليه بعد ((Swan lake & The Sleeping Beauty والتي تعتبر أعظم موسيقى للباليه في القرن التاسع عشر وما زالت حتى اليوم مصدر إلهام للمبدعين والفنون، وهي مستوحاة من حكايات الكاتب الألماني أرنست تيودور هوفمان. وبعصا قيادته الساحرة شعر موسيقيّو الأوركسترا بأهمية وجود قائد عالمي كشومان يقود الأوركسترا، ما نقلهم بالصوت الموسيقي إلى مكان آخر تجلّى فيه عزفهم ووضعوا فيه كل طاقتهم مستفيدين من خبرته الكبيرة والعالمية، وهذا ما عبروا عنه في حديث معهم بعد الحفل، وتحدثوا عن حماستهم التي رافقتهم تحت قيادته، وعن العازفة التي نثرت طاقتها الإيجابية على الأوركسترا فأعطوا أجمل ما عندهم.
كذلك امتد هذا الشعور بالإيجابية وعظمة الموسيقى إلى الحضور الذي شعر أن صوت الأوركسترا ارتفع إلى مكان عالٍ ومختلف. وهذ ما ظهر في الكتابات والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحافة، أن الأوركسترا قدمت مستوى عالمياً وصفوه بال “World class concert” أو”الحفل الموسيقي العالمي المبهر”.وفي هذا الفضاء الذي أدهش الحضور وأخذه إلى عالم مختلف من الإصغاء، انتقل شومان إلى(The Arabian Dance) التي يخاطب فيها تشايكوفسكي بموسيقاه جميع الحواس لا السمع فقط، ففي هذا العمل يطغى التنوّع الصوتي، عبر ألحان تتضمن الحركة والألوان وكل ما يتصل بالخيال والأطفال والحكايات الخرافية. وهي بعكس اسمها ليست رقصة عربية، بل هي تهويدة تقليدية جيورجيّة للأطفال المرضى. ومع مختارات كسارة البندق، انتقل المايسترو بالأوركسترا والحضور إلى الموسيقى الراقصة الأشهر ربما عند تشايكوفسكي وهي (The Waltz of Flowers) التي تتضمن تدفقاً كثيفاً للميلودي، فلا تنقطع المتعة الموسيقية في هذا العمل، منذ الافتتاحية وحتى آخر نغمة. وذلك بانسجام مذهل بين القائد وعازفي الأوركسترا بأدائهم الاحترافي، تخلله تداخل رائع لآلة الهارب مع عازفتها والانسحابات المتكررة للأصابع على الأوتار في متعة آتية من عبق موسيقى تشايكوفسكي وانفعالاته وتعبيره الموسيقي الحركي الراقص، مقترناً بالمتعة البصرية والمشاهدة المتخيلة لخطوات الراقصين.
وفي تلك المناخات من الرّقي التي تميزت بها الأوركسترا الفيلهارمونية، وما أضافه القائد العالمي من خصوصية في القيادة والتحكّم بالتفاصيل اللحنية الدقيقة التي كان يتابعها الجمهور بشغف متمسّكاً بكل نغمة على حدى، دخلت عازفة البيانو إيفلين بيريزوفسكي بثوبها الأحمر الجذاب منحنيةً للجمهور ومفتتحة أدائها ب”الكونشرتو الثالث”بحركاته الثلاث، للموسيقي الروسي العظيم سيرغي رخمانيوف من (Piano Concerto No. 3 in minor, Op. 30: Allegro Ma Non Tanto, Intermezzo: Adajo, Finale: Alla Breve) التي بدأ بكتابتها في صيف 1909 تحضيراً لجولة حفلاته الأميركية، والتي تُعد اليوم ذروة كتابة الكونشيرتو الرومنسي، بما فيها من سمات رخمانيوف، وصعوبة كتابتها للبيانو مع أوتار مترامية الأطراف وخطوط مذهلة وألحان متقلبة على مزاجية ميلوديّة متواترة. ومن المؤكد أن هذا الكونشيرتو هو من أصعب الكونشيرتو في تاريخ البيانو، وقلائل من الموسيقيين استطاعوا أن يتقنوا عزفه ويخوضوا غماره. وقد أظهرت العازفة براعة فنية عالية بطريقة تحكّمها بالصعوبة وسيطرتها عليها، وليس فقط عبر أدائها الموسيقي المبدع، إنما بتحكمها بالكم الهائل من النوطات، والصعوبة التقنية التي عادة ما يتهرب منها الموسيقيون وتحديداً في الكونشرتو الثالث. ويظهر ذلك في الوحدات الصغرى للعمل التي يقوم المؤلف بتنميتها والبناء عليها حتى تصل إلى الذروة الدراميّة، فلا يشارك اللحن في بنائها بل يظهر وسطها كجوهرة صافية براقة وسط زخارف معقدة، لا تمثّل بذاتها مبنى محدداً، وهذا هو سر البناء الرخمانينوفي.
هذا السرّ تلقفته العازفة بيريزوفسكي بمؤازرة القائد وبانسجام كلي بين القيادة والعزف، وتواطؤ على صناعة الجمال وتظهير عظمة الموسيقى، فتمكنت بأناملها الرشيقة والباهرة أن تُظهر الألحان ذات البناء الميلودي الواضح، وأن توصلها إلى أقاصي المتعة الموسيقية الصافية، مؤكّدةً على ما قاله عنها النقاد إنها تتمتع بـ “حساسية بالغة وطبع موسيقي هائل وتقنية مبهرة، وقلب يناسب كل هذا”. ضمن مساحة أثيرية حلّق فيها الحضور بتفاعل ورقيّ وإعجاب، مستعيداً مقولة رخمانينوف “الموسيقى تكفي مدى الحياة، لكن العمر لا يكفي للموسيقى”.
أما الختام فعودة إلى تشايكوفسكي مع رائعته الخالدة )Romeo and Juliet- Fantasy Overture) مع كل ما تحمله هذه السيمفونيّة من فانتازيا استلهمها الموسيقي العظيم من عمل شكسبير المسرحي. فتظهّرت هذه القطعة الفريدة بأداء مميز وعالي المستوى للأوركسترا وقائدها، استطاعوا عبر تقنياتهم الارتقاء بهذه القصيدة السيمفونية وإيصال العمل الذي كُتب على شكل سوناتا بخيوطه الثلاثة الرئيسية،إلى فضاءات شاهقة بين الشدة والتكثيف، والنغمة الناعمة والبطيئة، والكريشيندو والهبوط، في تلازم مع مندرجات القصة العاطفية وما تتضمنه من عشق وقلق وعاطفة جياشة وحب وانتحار في لغة موسيقية تصاعدية تخطف الأنفاس، وقف لها الجمهور مصفقاً لدقائق محيياً إبداع الأوركسترا ومهارة القائد.