عروبة الإخباري –
منذ الأسابيع الأولى لاندلاع حرب الإبادة، طرحت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو، مسألة اليوم التالي للحرب بوصفها جزءًا من الحرب النفسية للحرب؛ حيث تضمن الطرح أن اليوم التالي لا بد أن يكون من دون المقاومة، وحركة حماس تحديدًا، وبالتالي من المفترض أن تكون هزيمة المقاومة وتصفية بنيتها التنظيمية والعسكرية وعدم بقائها في السلطة في قطاع غزة أمرًا محسومًا ومفروغًا منه.
وعندما طالت الحرب وأظهرت المقاومة بسالة فاجأت الجميع، بدأ الحديث في الكواليس يكثر عن نزع سلاح قطاع غزة، وعن إمكانية قبول “حماس” جديدة منزوعة الأنياب ودون سلاح المقاومة، مع الاستعداد للالتزام بالتزامات واتفاقيات منظمة التحرير الفلسطينية التي تتضمن الاعتراف والتنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية.
وتباينت الأفكار المتداولة حول خطة اليوم التالي بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية؛ حيث طالبت واشنطن بعدم إعادة احتلال قطاع غزة من جديد، ورفضت إقامة منطقة عازلة والتهجير، بعد أن دعت إليه في بداية الحرب، وطالبت بعودة السلطة إلى قطاع غزة بعد “تجديدها” و”تنشيطها”؛ حتى تكون قادرة على القيام بما هو مطلوب منها.
حكومة نتنياهو واليوم التالي … مماطلة وأفكار متباينة
ماطل نتنياهو وحكومته في تحديد خطة اليوم التالي، مع الحديث عن تهجير السكان قسريًا تارة وطوعيًا تارة أخرى، ورفض عودة السلطة، وضرورة بقاء قوات الاحتلال بشكل دائم لضمان عدم تحول قطاع غزة إلى مصدر تهديد لدولة الاحتلال مرة أخرى في المستقبل، على الرغم من ازدياد المطالبة من داخل حكومته وخارجها، وحتى من جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية، بضرورة تحديد خطة اليوم التالي؛ لأن عدم تحديدها يشبه سفينة في البحر لا تعرف وجهتها، وهذا لا يُمكّن الجيش من وضع الخطط المتناسبة مع الأهداف الموضوعة لليوم التالي، وعدم تحديد الخطة سيساهم في عدم قدرة إسرائيل على إحراز النصر.
ومن الأسباب التي تمنع نتنياهو من إدراج خطة اليوم التالي على اجتماعات الحكومة أن هناك تباينات داخل الحكومة ومجلس الحرب؛ إذ إنّ هناك آراء تفضل عودة السلطة، ولكن بعد تأهيلها لتكون قادرة على القيام بما هو مطلوب منها، ولكن مع استمرار السيطرة الأمنية بيد إسرائيل؛ حيث تعمم تجربة الضفة الغربية على قطاع غزة، وتكون هناك سلطة محلية تتولى الشؤون المدنية، وتحتفظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية، بما في ذلك حقها في التدخل وقتما تشاء وأينما تشاء، مع احتفاظها بمواقع محصنة ومناطق عازلة شرعت في إقامتها على مساحة 16% من مساحة القطاع، مع احتمال توسيعها لتصل إلى 30%، وما يعنيه ذلك من المضي في تطبيق هدف تقليص مساحة وسكان القطاع الذي يعدّ الأكثر اكتظاظًا بالسكان.
إنّ تقليص مساحة القطاع لا يمكن أن يتحقق إلا بتقليص عدد السكان؛ ما يؤكد أن هدف التهجير تراجع مؤقتًا أمام المعارضة المحلية والعربية والعالمية الواسعة، ولكنه لا يزال يحكم العقلية والخطط الفعلية الإسرائيلية، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا أخذت الحرب شكل حرب الإبادة، واستهدفت تدمير البشر والحجر والبنية التحتية وكل شيء لمنع استئناف الحياة مستقبلًا، وليصبح القطاع المدمر طاردًا لسكانه.
وثمة آراء داخل الحكومة الإسرائيلية تطرح ضرورة احتلال القطاع، وعودة الاستيطان إليه، وبدأت أوساط في داخل دولة الاحتلال تضع خططًا للاستيطان والعطاءات، وتسجل الراغبين في الاستيطان في القطاع. وهناك آراء أخرى تفضل حتى لا يتحمل جيش الاحتلال المسؤولية إنشاء جهات محلية تتولى الشؤون المدنية مع بقاء قوات الاحتلال والاستعانة بقوات دولية متعددة بقيادة أميركية، كما طرح وزير الحرب يوآف غالانت، حتى لو لم يكن من ضمنها قوات أميركية، أو تشكيل قوة عربية من دول تقيم علاقات مع إسرائيل، تساعد قوات الاحتلال والسلطة المحلية على القيام بمهماتها وتضمن عدم عودة “حماس” إلى السلطة.
ما يجري تدمير لمكونات السلطة في غزة
يلاحظ المتابع لسير المعارك العسكرية أن ما يجري ليس مقطوع الصلة بما يخطط له لكي يكون، فهناك استهداف لكل شيء، وخصوصًا لكل رموز ومكونات السلطة القائمة في القطاع، لا سيما الشرطة واللجان التي شكلتها لتولي شؤون السكان واستلام وتوزيع المساعدات الإنسانية؛ حيث تسعى إسرائيل إلى الاستعانة بالعائلات والعشائر وبقايا السلطة التابعة لرام الله أو الذين ترسلهم أو تجندهم، ولكن من دون الاستعداد لعودتها، فهناك هدف دائم يحوز على شبه إجماع داخل الحكومة الإسرائيلية، وهو استمرار الفصل بين الضفة والقطاع، وبالتالي عدم تمكين حكومة واحدة تحكم هناك.
بدأ تنفيذ مخطط فصل الضفة عن القطاع قبل توقيع اتفاق أوسلو بأعوام عدة، وتعمق بعده برفض الالتزام فتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع، الذي من المفترض أن يكون مفتوحًا بشكل دائم بحسب نص اتفاق أوسلو، ولكن الحكومات المتعاقبة في إسرائيل حرصت وستحرص على استمرار الفصل وتعميقه، ولذلك مهدت وساعدت على وقوع الانقسام، واستثمرت لبقائه؛ لأن الانقسام الفلسطيني، خصوصًا الذي أخذ شكل قيام سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال المترافق مع الفصل بين الضفة والقطاع ساعد ويساعد إسرائيل على منع قيام دولة فلسطينية، فوجود سلطة واحدة في الضفة والقطاع يبقي باب قيام الدولة الفلسطينية مفتوحًا، ولكن وجود سلطتين غير مستقرتين وإبقاءهما بين الموت والحياة مع العمل على تفريخ سلطات جديدة يقبر احتمال قيام الدولة الفلسطينية ستبقى سياسة إسرائيلية ثابتة حتى إشعار آخر.
في هذا السياق يجب أن يؤخذ على محمل الجد موضوع رفض عودة السلطة إلى القطاع إلا بالمفرق حتى بعد تجديدها، وأقصى ما يمكن أن يحصل أنها تعود ضمن صيغة جديدة تكون فيها السلطة رابطًا هامشيًا ضعيفًا ما بين الضفة والقطاع، يغطي على استمرار الانقسام وتعميقه وتعميمه، مع العمل على أن يكون مركزه في غزة، وربط المعازل الآهلة بالسكان في الضفة به، وليس التعامل مع الموقف الإسرائيلي وكأنه مناورة أو أمرًا مؤقتًا لا تستطيع إسرائيل تنفيذه بسبب معارضة الشعب الفلسطيني والعالم كله تقريبًا، الذي بات مقتنعًا أكثر من السابق بضرورة قيام دولة فلسطينية.
إنّ تحول هذا إقامة الدولة المستقلة إلى حقيقة ليس قاب قوسين أو أدنى، بل بحاجة إلى مقاومة شاملة تسعى إلى تغيير جدي في موازين القوى، وتترافق مع تغييرات عربية وإقليمية ودولية تفرض على إسرائيل الاعتراف باستقلال دولة فلسطين.
الموقف الفلسطيني الرسمي لليوم التالي
تذبذب الموقف الرسمي الفلسطيني ما بين رفض التعاطي مع الأفكار المطروحة كليًا حول اليوم التالي إلى الاستعداد للتعاطي معها بشروط، وهذا سيؤدي وفق الخبرة السابقة للتعاطي معها من دون شروط، وإلا ماذا يمكن أن نسمي التعاطي إيجابًا مع إقامة ميناء، لدرجة إعطائه رخصة من السلطة في رام الله مع عدم سيطرتها عليه، مع أنه هدف إسرائيلي أميركي له أغراض خبيثة تطغى على الهدف الإنساني المعلن عنه؟
وماذا يعني كذلك الاستعداد للانفتاح على التعاون عمليًا مع قوات الاحتلال في مسألة المساعدات الإنسانية؟ وهذا لا ينسجم مع الموقف الذي اتخذته القيادة الفلسطينية برفض عودة السلطة إلى قطاع غزة من دون انسحاب قوات الاحتلال، ومع ذلك أبدت انفتاحًا في إطار خطة السداسية العربية على الاستعانة بقوات عربية أو دولية لفترة مؤقتة، ضمن صفقة تتضمن مطالبة الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي بمسار سياسي يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية، وأحيانًا تصل المطالبة إلى حد الاعتراف الفلسطيني بالدولة منذ البداية، وأحيانًا أخرى الاكتفاء بمسار موثوق ووضع جدول زمني، مع أنها تدرك أو يجب أن تدرك عدم وجود شريك إسرائيلي لقيام دولة فلسطينية، وهذا بات واضحًا بتصويت 99 عضو كنيست ضد قيام دولة فلسطينية أحادية، ولن يكون هناك شريك إسرائيلي على المدى المباشر على الأقل.
ما سبق من تعامل سياسي خاطئ سيقود إلى تعامل السلطة مع الأمر الواقع الذي تقيمه سلطات الاحتلال، كما تفعل دائمًا، مع الاستمرار برفض هذا الواقع لفظيًا؛ ما يجعل عمليًا بقاء السلطة كما هي هو الهدف وليس إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال دولة فلسطين.
ولعل ما سبق يفسر أن استجابة القيادة الرسمية لتحديات ما بعد السابع من أكتوبر ومخاطره وفرصه، لم ترتق إلى مستوى الحدث، فلم تبادر إلى قيادة الشعب في مواجهة حرب الإبادة التي لا تستهدف “حماس” فقط، بل تستهدف تصفية القضية الفلسطينية برمتها، كما تستهدف الشعب الفلسطيني بمختلف أماكن تواجده وتوجهاته، فلا يجب أن ننسى أن إسرائيل تجسد كيانًا استعماريًا استيطانيًا عنصريًا احتلاليًا إحلاليًا، ولن يكتمل مشروعها من دون طرد أكبر عدد من الفلسطينيين من وطنهم، والسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض.
ماذا لو اعتمدت القيادة الفلسطينية مقاربة جديدة؟
لو اعتمدت القيادة الفلسطينية مقاربة أخرى لسارت الحرب بشكل مختلف، ولكانت هناك إمكانية لتوظيف الفرصة المتاحة. وتقوم هذه المقاربة على أن الاحتلال بمخططاته يطال الجميع، ولا يفرق بين فلسطيني وآخر، وبين “فتح” و”حماس”، بدليل ما يعلنه نتنياهو مرارًا بأنه ضد عودة السلطة لأنها تستهدف القضاء على إسرائيل على مراحل، بينما تستهدف “حماس” القضاء عليها مرة واحدة. لذا، لا يوجد في ما تفكر به الحكومة الإسرائيلية مساحة لتلبية الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك حق قيام دولة فلسطينية، وأن اعتماد إستراتيجيتي البقاء والانتظار، بل الرهان على هزيمة المقاومة، ستقود إلى المزيد من التدهور والكوارث، مع العلم أن المقاومة لا تهزم، مع أنها قد لا تنتصر، ففي مثل هذه الحرب كما بينت وقائعها حتى الآن لا يوجد منتصر بالضربة القاضية، وإنما بالنقاط، وكل طرف سيحقق نقاطًا انتظار للجولة القادمة، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير.
قوات عربية أو دولية تفتح باب عودة الوصاية
لو اعتمدت القيادة مقاربة تقوم على أن الوحدة على الرغم من كل الخلافات ضرورة وليست مجرد خيار، وأنها قانون الانتصار، ومن دونها لن يتقدم الشعب الفلسطيني على طريق تحقيق أهدافه، لكان الوضع مختلفًا جدًا؛ حيث نرى تشكيل هيئة مشتركة في قطاع غزة يشارك فيها مختلف الأطراف بلا استثناء أحد، وتقودها الحكومة، شريطة انفتاحها على الجميع، وخصوصًا على “حماس”؛ لأنها لن تستطيع العمل إذا لم تتعاون معها، وستكون أمام خيارين أحلاهما مر: إما التعامل مع الاحتلال، أو عدم العمل في قطاع غزة.
يمكن أن تقوم هذه الهيئة الوطنية مقام السلطة إلى ان يعاد بناؤها وتشكيلها، وتبثق منها لجان شعبية تتولى مختلف المهمات، وعلى رأسها استقبال وحراسة وتوزيع المساعدات بشكل عادل، وترفض استبعاد وكالة الأونروا والتشكيلات القائمة من سلطة الأمر الواقع؛ لأن التعامل وفق ما يريده الاحتلال بحجة تلبية الحاجات الإنسانية يحولها إلى جسر يستطيع العدوان من خلال العبور عليه تحقيق ما لم يحققه بالإبادة والمجازر والإعدامات والتجويع والتهجير.
إنّ التنازع على السلطة وعلى من يتولى أمر المساعدات الإنسانية الآن والإعمار فيما بعد، والأخذ بسياسة الاستئثار أو الإقصاء؛ سيفتح طريق الفتنة والفوضى والاقتتال الداخلي، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث. وفي هذا السياق، نشير إلى الأنباء المتداولة عن دخول عناصر أمنية من السلطة في رام الله إلى قطاع غزة، وقيام سلطة الأمر الواقع في غزة باعتقال بعضهم؛ ما ينذر بما يمكن إن يحصل إذا لم يتم الاتفاق على العمل المشترك.
كما أن فتح الأبواب لقوات عربية أو دولية في ظل وجود قوات الاحتلال وعدم التزام إسرائيل بإنهاء الاحتلال ليس فقط في قطاع غزة بل في الضفة والقطاع، سيفتح باب عودة الوصاية والبدائل العربية والإقليمية والدولية، وحتى الإسرائيلية.
لا تسير الأمور وفق الرغبات والتمنيات، والواقع يقول بكل مرارة إن الوحدة لا تزال بعيدة، وإنّ السيناريوهات السيئة والأكثر سوءًا لا تزال أمامنا، ولا نملك سوى التحذير والدعوة إلى العمل لفتح الطريق أمام السيناريوهات الأفضل أو الأقل سوءًا.
نستطيع القول إن الوحدة السياسية والقيادية صارت أبعد كما يظهر في تبني سرديتين مختلفتين حول ما جرى وسيجري، وفيما يتعلق بالمقاومة والمفاوضات، على الرغم من حرب الإبادة التي وحدت الشعب في مواجهتها، وهذا الموقف يجعل السلطة رهينة خياراتها القديمة الجديدة التي سبق فشلها، لذا الآن في ذروة الحرب ليس الوقت للتقييم والحساب، وعلى السلطة أن تعرف سلفًا أنها ستكون مطالبة إذا حقق الاحتلال أهدافه بتكييف نفسها أكثر وأكثر تلبية لحاجاته، حتى تعطى دورًا ما في المستقبل؛ أي مطلوب منها أن تتحول إلى” إدارة مدنية” تحت إمرة الاحتلال.
لا أفق سياسيًا من دون وقف العدوان والانسحاب وعودة المهجرين والإغاثة والإعمار وتبادل الأسرى وهزيمة أهداف الاحتلال، فالحرب لا تزال قائمة ومرشحة للاستمرار، إذا لم تبرز تطورات جديدة حاسمة، لأشهر على الأقل، والصمود الفلسطيني على الرغم من الخسارة والمعاناة الهائلة أسطوري، والمقاومة باسلة ومستمرة بعد مرور ستة أشهر على اندلاع طوفان الأقصى.
تتحدد معالم اليوم التالي بناء على نتيجة الحرب، فإذا صمدت المقاومة وأفشلت أهداف العدوان ستحدد معالم اليوم التالي، وإذا هزمت ستقاوم الاحتلال حتى دحره، وربما ستخرج من الصراع مؤقتًا انتظارًا إلى اندلاع موجة مقاومة جديدة قد تكون أكثر جذرية وقوة من سابقاتها، وإذا انتهت الحرب إلى بين بين من دون انتصار حاسم لأحد الطرفين فستكون معالم اليوم التالي مختلطة.