عروبة الإخباري –
لاعتبارات شتى، أحرص على تفادي الدخول في تفاصيل الشأن الأمريكي الداخلي، خاصة حزبيا. لكن الواجب يقتضي -بين الحين والآخر- اغتنام فرصة حدث لافت أو خارق للتأمل في أبعاده الأمريكية وتداعياته الخارجية.
بعض تلك الأحداث لها بدايات مغايرة للنهايات من حيث أهميتها. غالبا ما تكون خاضعة لقراءة متسرعة وأحيانا سطحية، لمجرد أنها خارج نطاق الاهتمام والتغطية المحلية، حيث تلعب الثقافة السائدة سياسيا وقانونيا وأحيانا اجتماعيا، تلعب دورا يزيد بعض الأخبار أهمية حتى للمشاهد غير الأمريكي، بمن فيهم من لديهم مواقف مسبقة -سلبا أم إيجابا- من الحياة والسياسات الأمريكية، داخليا وخارجيا.
من تلك الأخبار ما شغل الصحافة الأمريكية منذ أسبوع، أثناء تغطيتها لملفين صارا انتخابيين بامتياز: ملف الأمن والهجرة. وملف حظر أو انتقال ملكية وبرمجية «تيك توك» من سور الصين العظيم إلى بلاد العم سام!
ليس بقليل ما قيل في الملفين، إلا أن مثالا واحدا فيه الكثير الكثير مما يعنينا، شرق أوسطيا.
شريط فيديو قصير بالإسباني لليونيل مارينو.شاب جعلت منه «اللايكات» والتعليقات والمشاركات «التشيير» بل مجرد المشاهدات -وقد زادت على الأربعة ملايين- جعلت منه مؤثرا أو «إنفلوينسر»، كما يرطنون! غريب خالف القانون، لم يلتزم بآداب ولا أعراف ولا قوانين الزيارة أو الإقامة أو الهجرة، فدعا من داخل البلد الذي غضّ النظر عن مقاضاته واحتجازه وترحيله، دعا جهارا نهارا وعبر «تيك توك»، إلى مخالفة القانون على نحو مثير للقلق، بل والهلع في بعض الولايات.
مارينو -وأيا كان اسمه- ما هو إلا متسلل انتحل صفة طالب اللجوء السياسي أو بالأحرى الاقتصادي.الشاب التي أتى منكسرا مغلوبا على أمره من فينزويلا صار مفتول العضلات وبات يحرض رفاقه في وطن المنشأ على «الغزو» ويحض الفقراء على اقتحام واحتلال المنازل المهجورة. بلد مارينو، فنزويلا تتربع على أحد أكبر عروش النفط في العالم. بلاد خير وفير، جعلت منها الدكتاتورية العسكريتارية والاشتراكية والشعارات الجوفاء والسياسات العنترية، جعلتها خاوية على عروشها من نفط وغيره من معادن نفيسة، فصارت في بضع سنين بلادا ينهشها الفقر والجريمة وتفتك بها سموم المخدرات والقمع والفساد، حتى صار التضخم يقاس فيها، بالمئات لا العشرات، مئويا!
بمنتهى الاستفزاز، وفي عز موسم انتخابي قضيته الأولى صارت أمن الحدود وضبط الهجرة بما فيها القانونية، يدعو مارينو الناس إلى احتلال المنازل بالقرفصاء لا وضع اليد كما نقول بالعربية، أو بفرض الأمر الواقع كما نتحدث في السياسة. حلم الأمريكي وهو امتلاك منزل يورثه لأسرته صار في مهب ريح غريب يستغل مغادرة صاحب الدار والديار إلى العمل أربعين ساعة أسبوعيا وأكثر، لاحتلاله «القرفصائي»!
«سكاوتينغ» تعني الجلوس القرفصاء، بشكل كامل أو جزئي! لولا اعتبارات تتعلق بالذوق العام والحس المرهف، لأضفت وفصّلت في تلك الصورة الصادمة. بيت هو جَني العُمْر كما يقال، يبلغ ثمنه ملايين الدولارات في بعض الولايات، يضيع هكذا بقيام غريب أو نفر قليل منالغرباء بالتوافق فيما بينهم على احتلال صدر الدار قرفصائيا، تسللا -كما اللصوص- تحت جنح الظلام أو اقتحاما في عزّ الظهر! وما يرشّ على الجرح الغائر ملحا، هو تحدى مارينو القانون باسم حرية التعبير.مارينو -وكائنا من كان اسمه- وبفضل وجوده على الأراضي الأمريكية تمكّن -كما يظن واهما-من معرفة قوانينها، ولم يتورع عن استغلال ما ظن أنها ثغرات، سمح للأسف بها إما عبر التراخي في تطبيق القانون، أو التقصير في التشريع المواكب لروح العصر وحاجات المجتمع والدولة. اتضح أن أصل كثير من القضايا لا يحل بإجراءات الجهات التي تعمل على تنفيذ القانون، بمعنى الأجهزة الشرطية والأمنية، وإنما تحت قبة البرلمان أو الكونغرس أو المجلس المحلي -على مستوى الولاية أو حتى المقاطعة- والاتحاديّ على مستوى الولايات الخمسين.
الثغرة كانت التعامل مع الغرباء الذي يتجاوزون القانون على أنهم مجرد مستأجرين! وبالتالي تتحول القضية أمام الرأي العام والقانون من قضية جنائية فيها إجرام لمخالفة قانون التعدّي «تريسباسينغ» على ممتلكات خاصة أو عامة، إلى مجرد خلاف بين مالك ومستأجر، وبالتالي تبقى القضية -ربما لسنوات- قيد التداول في محكمة مدنية. وقد بلغ الابتزاز حد دفع المالك لذلك الغاصب أموالا طائلة حتى «يفتكَّ» من شروره..
هي فرصة الآن أمام الحزبين الجمهوري والديموقراطي لإقناع الناخبين خاصة في الولايات المتأرجحة أو الناخبين غير الملتزمين حزبيا، للحكم على نجاعة الحلول في التعامل مع الملفين: مارينو وما يمثله وما يدعو إليه، والتيك توك الذي روّج لسرديته «التضليلية»، سيما أن التطبيق استخدم للتواصل فيما بين عصابات الإتجار بالبشر بمن فيهم الذين يتاجرون بأعضاء البشر والرق الجنسي وتهريب المخدرات عبر الحدود الجنوبية. وقد صدق فيه نائب الرئيس السابق مايك بينس -وهو من المحافظين الإنجيليين- عندما وصف تيك توك ب «فينتانيل» سيبرانيّ، يفتك بالأمريكيين. وقد قضى منهم -جلّهم أطفال وشباب- مئة ألف مواطن أمريكي العام الماضي وحده، جراء ذلك السم الزعاف الآتي في مكوناته الأولية وعناصره الخام من الصين عبر المكسيك.
الكارثة التي مازالت تتكرر في كثير من دول العالم هي «أغلبية صامتة» عرفت في مصر الشقيقة باسم «حزب الكنبة»، يتربص بها -الأغلبية- غرباء، يريدون احتلال الدار والديار بالقرفصاء، وحركات خبيثة «مْتَكْتَكِة»! الحذر كل الحذر من «مارينو» ومن لف لفه.