عروبة الإخباري –
عندما اندلعت حرب روسيا وأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، تقاطرت الأدبيات السياسية التي تبشر بمرحلة جديدة في النظام العالمي اُتفق على تسميتها بمرحلة ما بعد أوكرانيا، ولم يكن أحد يتخيل أن قطاع غزة الذي تبلغ مساحته بالكاد نحو 365 كم2 سيتفوق في تأثيره الجيواستراتيجي على صراع بالوكالة يدور في أوكرانيا بين قوة نووية كبرى هي روسيا، وحلف “الناتو” بقيادة الولايات المتحدة.
الشواهد تقول إن حرب غزة قد أثرت سلباً في الولايات المتحدة بشكل خطير للغاية، والمسألة هنا لا تتعلق بدعم إسرائيل، كون هذا الدعم ـ مع تفاوت قوته ومظاهره وحدوده بين الديمقراطيين والجمهوريين ـ من ثوابت السياسة الخارجية الأميركية، ولم يكن أمراً مفاجئاً لأحد، على الأقل بالنسبة للمتخصصين، ممن يدركون أن الموقف الأميركي في هذا الشأن لا يعتبر مبالغاً فيه طالما ارتبط الأمر بـ “العلاقات المقدسة”، التي تربط الحليفين الأكثر ارتباطاً في العالم.
التأثير الأهم على الولايات المتحدة ارتباطاً بحرب غزة يتمثل في انكشاف حدود النفوذ الأميركي بدرجة غير مسبوقة، حيث فشلت الدبلوماسية الأميركية في تحقيق أي اختراق نوعي ملموس في هذه الحرب، ومضت في مختلف مراحل الحرب برفقة دبلوماسيي أطراف إقليمية وسيطة مثل مصر وقطر، كما فشلت في ردع أطراف إقليمية أخرى باستخدام القوة العسكرية، كما أخفقت إدارة الرئيس بايدن في الحفاظ على الخيط الرفيع بين مصالح الولايات المتحدة من ناحية وتقديم الدعم لإسرائيل من ناحية ثانية، ودفعت ثمناً باهظاً بأثر رجعي لمواقف سابقة لم تثبت فيها واشنطن لحلفائها أنها شريك يمكن الاعتماد عليه، وهذا مايفسر أحد أبرز جوانب هذا التأثير المشار إليه، والذي تمثل في عدم قدرة الولايات المتحدة على بناء حشد دولي واسع يتصدى لتهديدات جماعة الحوثي للملاحة البحرية في البحر الأحمر، وهنا تكفي الإشارة إلى أن بعض أهم حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في الشرق الأوسط، لم يشاركوا في عملية “حارس الازدهار” التي تقودها الولايات المتحدة. ورغم أن أسباب عدم مشاركة هؤلاء الحلفاء مفهومة ومنطقية للغاية من الناحية الاستراتيجية، وبل وتصب في مصلحة الحفاظ على ماتبقى من الأمن والاستقرار الاقليمي، فإن عدم قدرة هذه العملية على ردع تهديدات الحوثيين ـ حتى الآن ـ يعكس سوء تقديرات الولايات المتحدة، وهو ما أثر بشكل سلبي للغاية في هيبة وسمعة الولايات المتحدة كقوة عظمى، وشجع بالتبعية ممول الحوثي ورعاته على الايعاز لميليشيات أخرى باستهداف عدة قواعد عسكرية أميركية في العراق وسوريا، والتسبب في مقتل وإصابة جنود أميركيين.
وبصرف النظر عن التأثيرات والتداعيات الاستراتيجية ذات الصلة بالعلاقات الثنائية بين الحليفين الأميركي والإسرائيلي، فإن حرب غزة إذن أسفرت ـ حتى الآن ـ عن اخفاقين أميركيين كبيرين أولهما يتعلق بالفشل في تشكيل تحالف دولي واسع للتصدي لتهديدات الحوثي رغم الأهمية الاستراتيجية البالغة التي يحظى بها باب المندب والبحر الأحمر كممر تجاري دولي، وثانيهما يتعلق بفشل التحالف الذي قادته في ردع هجمات الحوثي بل أدى إلى اكتساب هذه الهجمات المزيد من الجرأة والقدرة على المبادرة، ودخول أطراف أخرى على خط الصراع العسكري المضاد للولايات المتحدة، وتحويل هذا الصراع إلى مواجهة غير مباشرة بين إيران ووكلائها الاقليميين من جانب، والولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر، وبما يهدد بنشوب حرب واسعة النطاق في ظل تزايد حدة التوتر بين إسرائيل و”حزب الله” اللبناني أحد أهم وأخطر الأذرع الإيرانية.
ثمة نتيجة خطيرة ومهمة للغاية ترتبت على إدارة الولايات المتحدة لأزمة غزة، وهي إصرار حكومة العراق على خروج القوات الأميركية من البلاد، كنتيجة مباشرة لرفض القوى السياسية العراقية جميعها ما تعتبره حرب بالوكالة على أراضيها بين إيران والولايات المتحدة، بكل ما يعنيه ذلك من انتهاك لسيادة العراق والحرج البالغ الذي تتعرض له حكومته جراء الضربات المتبادلة بين التنظيمات والجماعات الإرهابية الشيعية التي تعد من الناحية الرسمية جزءاً من القوات المسلحة العراقية، وبين الجيش الأميركي الذي تعرضت قواعده في المملكة الأردنية وسوريا والعراق نفسه لضربات بصواريخ هذه الميلشيات وطائراتها المسيرة إيرانية الصنع. وفي حال اتفق الجانبان العراقي والأميركي بشكل نهائي على سحب القوات الأميركية بشكل نهائي، فإن هذا الأمر يعد انتصاراً استراتيجياً مهماً لإيران، التي تضع “طرد” القوات الأميركية من المنطقة هدفاً حيوياً تسعى إليه لضمان بسط هيمنتها الاقليمية وتحقيق اهدافها الاستراتيجية، فضلاً عما تعنيه هذه الخطوة بالنسبة للمعادلات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط ودور إيران في هذه المعالات، وموقع دولة عربية كبرى كالعراق فيها.
بلاشك أن من باب التبسيط المخل القول بأن الاخفاقات الأميركية في حرب غزة كانت وليدة الظروف الراهنة أو المعطيات التي انتجتها هذه الحرب، بل إنها نتيجة طبيعة مباشرة لما اتسم به نهج إدارة الرئيس بايدن في التعامل مع ملف الميلشيات في الشرق الأوسط بشكل عام، رغم تجاوزات هذه الميلشيات، ولاسيما الحوثيين بحق حلفاء واشنطن الخليجيين وقصف منشآتهم النفطية مرات عدة، ناهيك عن غض الطرف أميركياً عن سلوكيات إيران وممارساتها، حتى في أثناء ولاية الرئيس السابق ترامب، حين أسقط الحرس الثوري عام 2019، طائرة الاستطلاع الأميركية الأكثر تطوراً من طراز “آر كيو-4 غلوبال هوك”، والتي تبلغ قيمتها ـ وقتذاك ـ أكثر من 120 مليون دولار، حيث اكتفى ترامب بتغريدة اعتبر فيها أن إيران ارتكبت “خطأ جسيم” باسقاط الطائرة في المياه الدولية، ثم عاد وقلل من شأن إسقاط الطائرة، وقال إنه يشتبه في أنها أسقطت بالخطأ مشيرا إلى أن “الأمر كان سيختلف كثيرا” بالنسبة له لو كانت الطائرة مأهولة، أما إدارة الرئيس بايدن فتمضي منذ بدايتها على نهج استرضاء طهران اعتقاداً منها بأن ذلك يمكن أن يفضي إلى التفاهم حول استئناف الاتفاق النووي!
لو نظرنا إلى هذه التأثيرات الاستراتيجية السابقة، ورغم محدوديتها، فإنها تكتسب أهمية مضاعفة في ظل عامل التوقيت كونها تأتي على خلفية ما شهدته العلاقات الدولية من تحولات جذرية لافتة بسبب عوامل عدة منها تأثيرات تفشي وباء “كوفيد” وحرب أوكرانيا ثم صعود تجمع عالمي جديد تحت لافتة “بريكس”، الذي يعد تكتل اقتصادي بالأساس، ولكنه يدفع باتجاه عالم متعدد الأقطاب، ويمتلك قوة ناعمة ضخمة ومتنامية بما يؤهلها لإحداث تغييرات نوعية في هيكلية النظام العالمي القائم.