عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب –
الكتابة عن مفكر وكاتب وثوري ومثقف وقائد مناضل ومؤرخ أمضى سبعة وتسعين عاماً في الحياة معظمها في عمل متصل لم ينقطع من النضال من أجل قضية شعبه ومن أجل قضايا الأمة في سبيل وحدتها وصمودها ومواجهتها لاعدائها.. ولم ييأس فقد عاود الاتصال بالثورة الفلسطينية المعاصرة بعد عام 1965 وباركها وبارك خطى إنطلاقتهما وساهم في الدعوة الى رص صفوفها.
كان قومياً في مصاف من رفعوا لواء الراية القومية العربية ودعوا لها مثل، زكي الارسوزي، وغيرهم من الشخصيات التي كافحت في وجه سياسات التتريك… وواجهت الإعدامات في بيروت ودمشق.
لم أعرف شخصيةٍ معاصرة من غير المؤلفين العرب القدماء من فاقه في عدد مؤلفاته التي زادت عن خمسين كتابا الفها في مواضيع القضية الفلسطينية، وقضية الوحدة العربية، بل تخطى ذلك .. تراث عن الإسلام وتفسير القرآن وقضايا الفقه، ولم يستطع المؤلفون والنقاد أن يتجاوزوه رغم سطوع دوره المبكر، فهو من مواليد القرن التاسع عشر إذ ولد في عام 1887 وتوفي في عام 1948، وقد ظل طيلة تلك السنوات في العمل رغم ما أصابه من ضعف فيء السمع عزله عن الناس وضعف في البصر وحالات نفسية سببها النكبة وما أصاب شعبه.
الكتابة عن عزة دروزة كان خياراً صعباً، فالرجل موسوعي كما كان المفكرون العرب يقولون، وهو بحر في تأليفه وعلمه وذاكرته وجلده وحرصه على التوثيق والتدوين، لقد أنخرط في كل أشكال العمل الوطني والقومي من موقع الصدارة، وربطته في علاقات قوية مع القائد الفلسطيني البارز الحاج أمين الحسيني، قبل أن تبرد هذه العلاقة وتضعف بنقد دروزة لأسلوب الحسيني الذي يقول عنه دروزة أنه يتفرد برأيه ويتخذ قرارات احادية دونما العودة للمرجعيات،
كما ارتبط بالثورة الفلسطينية المعاصرة وشهد ولادتها والتقى قياداتها وحثهم على الوحدة ومواصلة النضال.
كتب دروزة الكثير وكان شاهداً على عصر.طويل وتنقل مرتحلاً ومنفياً وسجيناً .. وقد عانى الغربة والسجن والنفي، ولكنه ظل صامداً كشجرة السنديان، وقد عمل في أكثر من هيئة وتنظيم، ولكنه ظل ملتزماً بخطه الوطني المستقل وقد شغل مناصب قيادية في كل المحافل التي عمل فيها من موقع أمين السر أو السكرتير العام أو المنسق، ولم يكن ليستنكف عن أي مهمة يقتنع بها أو يدرك أنها تقرب شعبه من أهدافه، عاش حياته بعد النكبة في دمشق ودفن فيها دون التقدير اللائق به، ولكن الأجيال الفلسطينية والعربية ستبقى تذكر عزة دروزة كواحد من أبرز إعلام الكفاح والنضال أو الثقافة والفكر في فلسطين.
سعدتُ أن كلفني أحد أحفاده (أقاربه) الدكتورسعيد دروزة، بالكتابة عنه وكنت اعتقد أن المهمة سهلة حتى غصت في بحر تراثه وإنجازاته من كتب وبيانات ومهمات ومنشورات وأدوار تفوق القدرة الفردية، فقد تصدى من قبل مجموعة من المفكرين والباحثين عن جوانب حياته فقد كتب عنه ناجي علوش وكتبت عنه بيان نويهض الحوت، وعديد من المولفين.
أعاد انتاج مذكراته التي زادت عن أربعة الاف وخمسماية صفحة تقريباً، الدكتور وليد الخالدي في مجلدين هما تكثيف لمذكرات ستة مجلدات شكلت السيرة الذاتية للراحل دروزة.
ما سأقدمه في التعريف بهذه الشخصية الفريدة المميزة ليس أطروحة دكتوراة، وإن كانت الدكتوراة أسهل لأنها تميل الى التخصص وتناول جوانب محددة، ولكن ما اقوم به هو محاولة لتأطير شخصية فذة سابقة لزمانها ومتخطية لمكانها وبأسلوب بعيد عن الخشونة أو الصيغ الأكاديمية الجامدة ليسهل الوصول الى هذا الكنز، الذي هو شخصية دروزة التي بقيت تتوهج رغم بعد الزمن وكثرة التحولات.
فمن هي هذه الشخصية، ولكني يمكن تناولها في إطار.
أ- البيئة السياسية التي أحاطت بولادتها.
ب- البيئة السياسية التي واكبت نضالها لما يقارب القرن
ت- العائلة والظروف الذاتية لهذه الشخصية وفي المكان الأول دراسته في نابلس
ث- الحقبة الكفاحية للراحل والتحاقه بالعمل الوطني مبكراً، فقد كان يافعاواسس حزب. الاستقلال .
لقاؤه مع الحاج أمين الحسيني والقيادات الفلسطينية وقد عمل .. وهو صغير على مواجهة مخططات سايكس بيكو ووعد بلفور وخطط تهويد فلسطين وموجات الهجرة الصهيونية الأولى والتصدي للانتداب البريطاني وخططه، وتمثيل فلسطين في أكثر من مؤتمر والاجتماع مع الوفود والقادة ولجان التحقيق، المشكلة في بسبب .. الصراع الفلسطيني مع الحركة الصهيونية، ثم الإنخراط في ثورة عام 1936، الثورة الفلسطينية الكبرى من مواقع سياسية ونضالية.
ومعاصرته لمرحلة النكبة وانتقاله من نابلس ومتابعة شؤون حكومة عموم فلسطين ثم حالة الارتحال إلى …سواء في العراق وتركيا، ومرحلة السجن والرحلة الصعبة التي أعقبت النكبة وغياب فلسطين عن مسرح الأحداث.
واحتفائه ببروز الثورة الفلسطينية المعاصرة والالتقاء بقياداتها ووضع خبراته في خدمتها وفي كل تلك المراحل الممتدة لقرن كان يكتب ويدون وينشر بأكثر من لغة منها العربية والتركية والفرنسية.
لم يضعف دروزة ولم يستسلم وبقي كالشجرة المثمرة، وكان لايشكوالضعف ويؤمن أنه :
إذا كانت النفوس كباراً.
تعبت في مُرادِها الأَجساد
لقد قرأت الكثير من كتبه، وقد كانت صلتي بما كتب منذ كنت طالباً في الجامعة حتى حين كان يتحدث عنه الدكتور عبد الرحمن ياغي، ويقدم. لدوره المفكر أكرم زعيتر وغيره.
ولا أزعم أني قرأت كل كتبه، فبعضها غير متوفر في المكتبات، أو لم يطبع، ولكني استطعت أن استفيد من الكتب المطبوعة عنه في معرض الكتاب في القاهرة لاستعرض ما لدى المكتبات ودور النشر العربية عنه، حتى ظفرت بمذكراته وخاصة السيرة الذاتية .. من مذكراته في مجلدين حررهما وليد الخالدي، وكتب أخرى عن القومية العربية والعمل العربي الموحد، والوحدة التي ظل يشجعها وكذلك كتبه عن فلسطين وقضيتها وعن الحركة الصهيونية واستعمار فلسطين، وهي قائمة طويلة، سأستعرض أسماء الكتب فيها.
أما الجانب الديني المتعلق بتفسيره للقرآن وكتاباته الوفيرة عن الإسلام وعن العرب قبل الإسلام ودورهم فيه، فهو عالم مترامي الأطراف لا يمكن الإحاطة به الّا في سنوات.
وإذ يسعدني أن أقدم تصوراً أولياً للكتاب الذي سأقدمه عن الراحل دروزة، فإنني سأتوقف بالكتابة في أبرز المحطات.
المحطة الأولى: النشأة والبيئة والنشاط الوطني، أواخر العهد العثماني، جمعية الاستقلال السوري وكلمته في الترحيب بالملك فيصل الأول ملك سوريا.
المحطة الثانية: وفيها الدور البارز في الاضراب الفلسطيني وأحداثه من 1936 الى عام 1939م، ولجنة التحقيق الملكية البريطانية، ورحلته الى بغداد ورحلته الى الحج والتقائه بزعماء مسلمين من أجل القضية.
المحطة الثالثة: الأحداث التي عاشها منذ خروجه من فلسطين ومنها حضوره في مؤتمر بلودان 1937، ودعوته الى بغداد لتنظيم لجنة الدفاع عن فلسطين ومتابعة حل اللجنة العربية العليا واعتقال قادتها ونفيهم ونفي المفتي الى بيروت وهو ما منعه من العودة الى فلسطين، ثم تجدد الثورة ودوره في إعادة تأجيجها، وصدور قرار التقسيم وإنعقاد مؤتمر لندن، وصدور الكتاب الأبيض، ووقوع الحرب العالمية الثانية، واعتقال عزت دروزة ومحاكمته وسجنه في دمشق، وتعثر الحكم الوطني في سوريا، وتوقف الثورة العربية التي كان شاهداً عليها، وإطلاق سراحه من السجن.
المحطة الرابعة: هجرة دروزة الى تركيا وعلاقة العرب بدول المحور، وعودة الحياة الدستورية الى سوريا ولبنان وأزمة لبنان، وتتابع الآزمات العربية التي أرهقته.
المحطة الخامسة: أحداث متتالية في القضية الفلسطينية والعدوان الفرنسي على سوريا، واستسلام الجيش 1945، وهزيمة ألمانيا والمحور وعودة دروزة من النفي من تركيا الى سوريا ومتابعة القضية الفلسطينية، وما كتبه عن قنبلة هيروشيما وقرار تقسيم فلسطين.
المحطة السادسة: كتابات عن النكبة ومذكراته عنها ورسائله الى الشخصيات الهامة الفلسطينية والعربية ومقابلاته العديدة وتقاريره التي أدمجها بمذكراته.
هذا هو الإطار العام الذي يحيط بشخصيته ويكونها على صعيد الإبداع والنضال والتأليف، وهو الإطار الذي يحوي عمره الممتد من عام 1887 – 1948.
لقد قاوم دروزة مشروع التقسيم، واختلف مع الحاج أمين الحسيني، خلافات مبررة وظل يرى في الكفاح المسلح وسيلة للحفاظ على فلسطين رغم نضاله السياسي المتصل، إلا أنه كان ينخرط الى جانب المقاومين والمجاهدين، ويوفر لهم الدعم ويساندهم، وقد أدت الصراعات الحادة وعدم القدرة على احتمالها الى إصابته بانهيار عصبي أثر عليه إضافة الى عملية المرارة التي أجراها، وكانت اتعبته ونالت منه في أعراضها وأصيب بالآم نفسية، وقال “زهقت” وتوقف لفترة عن التدوين وكتابة الأحداث، والذي بدأه منذ عام 1932، وبدأ ضعيفاً جسدياً في سنوات 47/ 1948، وقبل أن يستعيد نشاطه بعد اعتكافه في البيت وما أصابه من عاهة في السمع.
لقد ترك لنا مذكراته في ستة مجلدات توزعت على عشرين جزءاً، موزعة لكل منها عنوان، وهذه الأجزاء سنتابعها للوقوف على أبرز ما فيها مما كون شخصيته الوطنية الفاعلة.
لقد توزعت المذكرات بين السيرة الذاتية أو الترجمة، وكان المصطلح واسعاً على مفهوم المذكرات.
لم يدرس دروزة دراسة أكاديمية ولا هو خريج جامعة إذ كان فقيراً لم تتمكن عائلته من إرساله الى الجامعة، خاصة وأنه أنخرط في العمل الوطني في الكتابة مبكراً تخرج تخرج من الأعدادية المتوسطة عام 1903، ما اضطر والده الى الحاقة بدائرة البريد في نابلس متدرباً بلا راتب، وارتقى في العمل الى أن أصبح مديرها، وعوضاً عن الدراسة، كان ذكياً متوقد الذكاء والمعرفة وقارئ نهم لكل ما يصدر.