عروبة الإخباري –
لا نجد حدثًا يُجسّد كثافة المعاني الروحانية والعرفانية للإسلام كما في حادثة الإسراء والمعراج، فالإسراء هو آية من آيات الله الكبرى التي لا تتوقف معانيها ودلالاتها على مكانة النبي العظيمة ومبلغ تكريمه وإنما تمتد لتشمل كل إنسان يستلهم الهداية والرشاد.
لقد جمع الرسول الأعظم في رحلته من مكة إلى القدس بين خبرته الروحية الفردية والخبرة الجماعية للرسل السابقين، فالأنبياء يتعانقون جميعا كلَبنات بناء واحد لا يفصل بينهم اختلاف المكان أو تباعد الزمان.
في ليلة الإسراء والمعراج كان الارتحال أفقيًا وعموديًا. جاء الارتحال العمودي نحو السماء بمثابة تعبير روحاني إيماني لا نملك أمام صدقيته سوى الإيمان والتسليم به. وهذا الارتحال قد جاء كثمرة للحركة النبوية الأفقية بين مكانين على الأرض، وهنا تظهر الرمزية الكبيرة للارتحال من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى فهو ينبّهنا إلى أهمية الجغرافيا وتواصل الشعوب باعتبارها دروبًا للأفكار ومسالك للمعرفة والعرفان.
وفي السياق ذاته فإن علاقة الإنسان بالخالق ورحلته الروحية الفردية لا تنفصل بحال من الأحوال عن علاقته بمحيطه الكوني ورحلته الجماعية. وبناءً على هذه النظرة الشمولية العميقة للإنسان ندرك بأن النظرة المقاصدية الكلية للشريعة في الإسلام لا تفصل بين الدين والدنيا أو بين الجهاد الاجتماعي الذي يسري بين الناس على الأرض ويسعى إلى تحقيق العدل والنفع العام، وبين الجهاد الروحي الذي يرتقي بالمؤمن نحو معارج السماء، فالمعاملات والعبادات كلاهما ينتظم في حركة بنائية واحدة تسعى إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل.
وبصفاء ليلة الإسراء والمعراج تعيد تلك الرحلة تذكيرنا بجذورنا وثقافتنا العربية التي ألِفَت حريّة الحركة والارتحال في الشتاء والصيف من تهامة جنوبًا إلى بلاد الشام شمالًا. وفي الوقت الذي ما تزال فيه منطقتنا عرضة للأزمات والعدوان، ماذا سيبقى من حمى أو حُرُمات ما لم تتآلف القلوب وتتسق القناعات من أجل نقاء الهوية وصفائها ودفاعًا عن القداسة الموصولة للأماكن التي باركها الله في آياته المحكمات؟ وبعيدًا عن الاعتبارات المادية والسياسية المألوفة التي خلَّفها الاستعمار القديم، والتي لا تؤدي سوى إلى مزيد من التشظي والتقسيم، فهل يمكن لنا أن نستثمر إرهاصات “ثورة الوعي” ونهضة العقل والضمير التي أصبحت أكثر وضوحًا وجلاءً من أي وقت مضى؟
يجعلنا الإسراء من مكة إلى القدس أكثر إدراكًا بأن قضية فلسطين هي قضية بلاد الشام والجزيرة العربية والأمة العربية والإسلامية، ومن هنا كان الإسراء والمعراج نقطة تحول في تاريخ البشرية حيث اتسعت دوائر القداسة في المكان والزمان وتأسست القواعد الإيمانية المشتركة لميلاد عالمية إنسانية جديدة تشمل البشرية كلها.
تنبّهنا حادثة الإسراء والمعراج إلى الاقتران العميق بين مقام الألوهية ومقام العبودية، أو ما يسميه محمد إقبال “نفي الذات”، وما ينطوي عليه من تواضع وخضوع مطلق للخالق، والذي يقابله “إثبات الذات” بين الإنسان وأخيه الإنسان.
لا شك أن عشقَ القلب والانجذاب الروحي للخالق يتجاوز حدود المعرفة الذهنية المجردة، ولكن رحلة الإسراء والمعراج لا تمثل نقيضًا للعقل البشري، فالإسلام جاء بما تحار به العقول ويستنهضها لا بما يناقضها ويقوض بنيانها، وهنا ندرك ضرورة الجمع بين الإشراق الروحي والتنوير العقلي.
ورغم أننا لا نؤيد تسييس الدين فإن المشهد الحالي لما يحدث في أرض الإسراء والمعراج يسيّس كل شيء، ويدفع نحو مزيد من الصراعات عوضًا عن إنهاء الظلم والعدوان، وإيجاد نظام إنساني عالمي جديد محوره وجوهره كرامة الإنسان وتحقيق العدالة بين الشعوب. يعلمنا التاريخ أن روح الحرية والانعتاق للأمم والشعوب ستبقى حاضرة في القيم الروحية الكامنة التي تختزنها شرائع الأنبياء والمرسلين وتستعصي على جنون الهيمنة والاستعلاء، فرغم نجاح الاستعمار القديم بتقسيم المنطقة إلى أوطان منفصلة وابتلائنا بهويات فرعية اتخذت من اختلاف الجنسية والوطن مسوّغًا لها فسيبقى الرجاء حاضرًا رغم المحن والأخطار، وأذكر هنا مقولة الملك الشهيد: “أتينا لبذل المهج دونكم، وكفانا دليلًا صدق بلائنا في الله والجنسية والوطن، وتعريض النفس للأخطار والمحن”.
ندرك تمامًا أن تهديد عروبة المسلم أو المسيحي أو غيرهم من أتباع الأديان في المشرق هو جزء من تقويض الهوية العربية الجامعة التي عمل الاستعمار على تفتيتها في سبيل تعطيل نهضتنا وتسخير تبعيتنا لمركزيته المهيمنة.
إن حق المسلمين الروحي في القدس لم يبدأ بحادثة الإسراء والمعراج، أو بالدخول السلمي للمدينة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنما هو امتداد للحق التاريخي للشعب الفلسطيني في وطنه، فالوجود الحضاري للشعب الفلسطيني بدأ قبل رحلة إبراهيم عليه السلام من مدينة أور في العراق إلى فلسطين بآلاف السنين. وهنا لا بد من نشر الوعي بين الأجيال بأن الشعوب العربية وغيرها من الشعوب التي اعتنق معظمها الإسلام هي ذاتها كانت متجذرة في أوطانها قبل انتشار الإسلام.
علينا أن ندرك أن الصلة التي أنشأتها رحلة الإسراء والمعراج بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى تؤكد أن أي تهديد أو مساس بالمسجد الأقصى وبالشعب الفلسطيني الصامد على أرضه المباركة إنما هو اعتداء على كرامة الإنسان ومساس بالمقدسات، فهل يمكن لنا بعد ذلك أن ننسى أرض الإسراء والمعراج؟