عروبة الإخباري – د. ميرنا ريمون شويري
يجمع هذا الكتاب مجموعة مقالات للناقد يوسف طراد، ومع أنّ معظمها قراءات لكتب أدبية إلّا أنّه تطرّق إلى كتب من مختلف الموضوعات: طبية، تاريخية، نقدية، سياسية.
اللافت في هذا الكتاب أنّ طراد لا يقدّم نفسه كناقد أكاديمي إذْ يعتذر من القارئ في المقدّمة: “عزيزي القارئ، قد تلاحظ أنّ التقريظ هو المسيطر على المضمون، يعود ذلك إلى الأمانة لجهة حفظ جهد الكاتب وعمله الدؤوب إلى نجاح كتابه، من جهة، وعدم وجود أساس علمي لديّ في مجال النقد، من جهة أخرى، كوني لم أدرس هذا المنحى، وشهاداتي الأدبية متواضعة” (9 ). والسؤال الذي يسأل هنا: هل يجب على الناقد أن يكون مطلعًا على النظريات الأدبية، فيستعملها كأدوات في قراءاته لأيّ نصّ؟ أعتقد أنّ النظريات أدوات أساسية للناقد، ولكن نستشفّ من تجربة طراد في النقد أنّه يمكن للناقد أن يكتسبها، ويستعملها من دون أن يكون قد درسها في الجامعة أو قرأها، فنتلمّس ظلّ هذه النظريات في مقالاته من دون أن يسمّي المصطلحات الأكاديمية لها، أو يستشهد بمنظّري المدارس الأدبية.
نتلمّس في مقالات طراد أثر أداة التفكيك والتي يشرحها المفكّر جاك دريدا، وهو من أهمّ المنظّرين لنظرية ما بعد الحداثة بأنّها ليست نظرية بل فقط مقاربة، ولا تهدف إلى إيجاد حقائق بل هي أسلوب في التفكير والكتابة يؤدّي إلى الشكّ في كلّ شيء.
في عدّة مقالات نلاحظ أنّ طراد يفكّك الأعمال الأدبية ثمّ يعيد صياغتها، ونراه يركّز على هذه المقاربة عند الكتّاب، فيقول عن رواية خربة مسعود للكاتب منصور عيد إنّها “تفكك شيفرة العيش المشترك” (53).
يرفض دريدا مبدأ المعارضات الثنائية، فيشرح هذا المبدأ بأنّ الفكر الإنساني مبنيّ على فهم أيّ ظاهرة أو مفهوم بمعرفة ضدّها مثلًا” أبيض- أسود. شرقي-غربي”، لكن يؤكّد على اعتباطية العلاقات بين الأضداد، وعلى أنّها موروثات اجتماعية، ويدعو إلى تفكيكها بسبب ادعائها بوجود معان ومفاهيم ثابتة.
ويلاحظ القارئ أنّ طراد لا يقيّم الأعمال من خلال المعارضات الثنائية أو أيديولوجيا معيّنة بل يقرأها كما هي، ويضيء على ملامحها الخاصّة بها.
كما أنّه يضيء على إحدى خصائص مدرسة ما بعد الحداثة في الأعمال الأدبية، وهي نقل الواقع كلوحة فيسفساء أيْ كلّ ظاهرة مترابطة وفي الوقت ذاته منفصلة. فيقول عن رواية (سوق الملح) للأستاذ عمر سعيد: “هذه الرواية هي مجموعة روايات مرصوفة رسمت لوحة فسيفسائية أدبية مذهلة. إنّ حياة كلّ شخص منها رواية بحدّ ذاتها، تتجلّى للقارىء على أنّها منفصلة عن رفيقاتها، لكنّها متصلة في ما بينها بخيوط رفيعة متينة” (108).
ويقول في (أنشودة الحبّ) عن كتاب الموائد المفتوحة: “أتقن المؤلّف فنًّا جميلً يدعى الكيمياء الأدبية، فحوّل العلم والأدب إلى شاشة متلألئة ضمّها الكتاب، فأضحى كلّ سطر منه شاهدًا على حدث، وكانت نهاية كلّ نصّ إشارة إلى سواه تحمل الضوء الأخضر”.
يؤكّد جيلديلز وهوأيضًا من أهمّ المنظّرين لهذه النظرية على عدم مركزية النصّ بل يؤكّد على أنّه يشبك علاقات مع نصوص أو كتب أخرى. وطراد يقرأ الأعمال من خلال شبكها مع أعمال أخرى كالروايات المحلية والعالمية، فيلجأ إلى الكثير من الروائيين العالميين مثلًا رواية (الغريب) لألبير كامو وأعمال شكسببير والأدباء الأوائل كمي زيادة. ونراه يفتّش عن خصائص مدرسة ما بعد الحداثة، فيصف رواية بارعة الأحمر (تانغو في بيروت) بأنّها تنتهي ببداية أي أنّها مفتوحة، وهذه صفة من صفات ما بعد الحداثة. أيضًا يشبك قراءته بنصوص من الكتاب المقدّس، ففي مقالته عن رواية (كفرشليم تحت الفصل السابع) يركّز على ارتكازها على روحانية الكتاب المستمدّة من الكتاب المقدّس.
يقرأ عدّة روايات من خلال النظريات النسوية والتي تناقش أيّ نصّ من خلال عدسة نسائية، فتركّز على مسائل متعلّقة بحقوق المرأة كالبطريركية.. تهميش المرأة.. والمسائل التي يجب تغييرها لتحقيق العدالة بين الرجل والمرأة. ففي مقالته (مشاكل المرأة الإفريقية عن رواية عائشة بنور) الزنجية صرخة بوجه العطب. يناقش طراد قضية الختان وأمور تتعلّق بقضايا المرأة السوداء، كما أنّه يناقش رواية (حبّة خلاص) للروائية حنان خاشوف من منظور نسوي، فيصوّر بشاعة البطريركية. (Tramadol)
نلاحظ أيضًا ظلالا للنظرية المابعد الكولونيالية، فيركّز في مقالته عن كتاب (تحت سقف العقل) لتريز جريس على العلاقة غير الصحيحة بين الغرب والشرق، وكيف ننظر إلى الغرب بعقدة النقص، وفي هذا السياق يقول فرانز فانون إنّ المستعمَر يرى الغرب بعقدة النقص.
مع أنّ نصوص طراد تشي بأنّه يستعمل النظريات النقدية إلّا أنّ هذا يجعلنا نسأل أنفسنا إذا كانت الاستعانة بالنظريات كافية أن تجعل من قلمه حالة خاصّة في النقد. أعتقد أنّ الناقد كالروائي والشاعر يجب أن تكون لدى قلمه ملامح خاصّة.
بالفعل لنصوص طراد ملامح خاصّة، لأنّه يقارب الأعمال الأدبية بطريقة خاصّة به، فهو دائمًا يحاول أن يقرأ الإهداء، ويبدأ بمقدّمة حيوية تشدّ القارىء، فيقول في مقالته (لعنة العصور): ”أريد أن يشمّ القارئ عطري عندما يقرأ نصّي” (حياة الريس). ويبدأ مقالته (دروب الظلمة): “ثمن النسخة أربع ليرات لبنانية أوما يعادلها”.
سمة أخرى لطراد، وهي بساطة لغته إذ يعاني الكثير من القرّاء عدم فهم نصوص النقد. ويلاحظ القارئ تواضع قلمه بعكس الكثير من النقاد في العالم العربي الذين يتعاطون مع النصوص الأدبية بفوقية، فيصبح نقدهم تعاليم للكتاب والقارئ، وبعضهم غير موضوعيين إذ يحاولون رفع شأن نصّ أو التقليل من شأن نصّ بسبب موقف ما من الكاتب. أمّا طراد فنلاحظ موضوعيته، لكن يؤخذ عليه أنّنا في بعض النصوص نتلمّس مدحًا مبالغًا فيه للكاتب.
يتلمس أيضًا القارئ عمقه إذ ينقّب بين السطور، ويستشف الرموز، ففي مقالته عن رواية (فضاء ليس أرحم من أحشاء الأم) للروائية سوزان عكاري، يكتب أنّه لا توجد أسماء أبطال للرواية لأنّ “القتل والخيانة والمجون لا يستحقّ أسماء، فمنبع الأسماء صفات حميدة أو أسماء قديسين وأنبياء وصحبهم”.. (44 ).
هذا الكتاب نقدي بكلّ معنى الكلمة شكلًا ومضمونًا إذ كما قلت سابقا ملامح قلمه مميّزة. أمّا من حيث المضمون فإنّه لا يعكس المعنى الواضح للنصّ، لكن ينقّب بين طيات السطور ليستخرج معاني عميقة.
من الجدير بالذكر أنّ الكثير ممّن يكتبون النقد الأدبي في العالم العربي غير أكاديميين إلّا أنّ طراد الوحيد الذي اعترف بأنّه غير أكاديمي غير أنّ نصوصه تشي بثقافته العالية كما أنّه يكتب عن روح الكتب والتي لا يعترف بهذه المقولة النقد العلمي إلّا أنّ الفيلسوف الريحاني يقول على لسان بطله في كتاب خالد إنّ كلّ كتاب صديق، لذلك كان يحرق كلّ كتاب يقرأه، وكأنّه يقدّس روحه، ولعلّ هذه دعوة أنّ الأدوات النقدية ليست كافية لمقاربة النصّ بل يجب أن يفتّش القارئ أوالناقد عن جوهر الكتاب الذي يكمن فيه كما تكمن الروح في الجسد.