عروبة الإخباري –
لم يعد دور إيران وعلاقتها بوكلائها يخضع لأي قدر من التحليل والتكهنات، حيث انتهت تماماً مرحلة الشواهد بلا أدلة، والتي كانت تتكىء على نفي رسمي أميركي متكرر لوجود أدلة على علاقة إيران بسلوك وكلائها سواء في اليمن أو العراق أو سوريا وغيرها، حيث قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنه “أوصل رسالة إلى إيران” من خلال الغارات الجوية على المتمردين الحوثيين في اليمن، وأضاف بايدن، “لقد أوصلت الرسالة بالفعل إلى إيران، إنهم يعرفون أن عليهم ألا يفعلوا أي شيء”، وتابع: “سنتأكد من الرد (الإيراني) إذا واصلوا (الحوثيين) هذا السلوك الفظيع مع حلفائنا”.
هذا الهجوم يمثل مراجعة أميركية كاملة لسياسة خارجية استمرت طيلة السنوات الأربع الفائتة، واكتشف البيت الأبيض فشلها في إضعاف علاقة واشنطن الاستراتيجية بحلفائها في دول مجلس التعاون، حيث تراجع الرئيس بايدن عن رفع الحوثيين من قائمة الإرهاب، وهو التصنيف الذي رفعته إدارته عن المنظمة، وقال عندما سئل عما إذا كان على استعداد لوصف الحوثيين بأنهم جماعة إرهابية: “أعتقد أنهم كذلك”، حيث أكد البيت الأبيض إنه يراجع تصنيف الحوثيين على إنهم “إرهابيون”. ثمة جزئية أخرى تتعلق بتراجع البيت الأبيض عن تفادي اتهام إيران بالمسؤولية المباشرة عن سلوك وكلائها، وبات يوجه لها اتهامات صريحة بهذا الشأن بل اعتبر الضربات الجوية ضد الحوثيين رسالة مباشرة لإيران، وهو الأمر الذي لم يفعله في كل الضربات التي يوجهها الجيش الأميركي في العراق رداً على استهداف قواعده هناك، ما يعني أن الأمر يبدو مختلفاً وأن البيت الأبيض بات يميل إلى المغامرة نسبياً بشأن التصدي لإيران وتهديداتها، وهذا عائد بالأساس إلى أن هذه التهديدات باتت تطال بشكل متصاعد الحليف الإسرائيلي عسكرياً واقتصادياً، وحيث تخشى الولايات المتحدة أن تتصدى إسرائيل بنفسها لإيران أو وكلائها، ما يفتح الباب أمام توسع الصراع في منطقة الشرق الأوسط بشكل خطير.
عندما سئل الرئيس بايدن عما إذا كانت بلاده تخوض حرباً بالوكالة ضد إيران، قال: “لا … إيران لا تريد الحرب معنا”، ولم يذكر إن كانت الولايات المتحدة نفسها في حالة حرب بالوكالة مع إيران أم لا، واكتفى بالاشارة إلى ما لديه من معلومات بأن إيران لا تريد الحرب، وهذا صحيح نسبياً، ولكن يبقى السؤال الأهم، هل الولايات المتحدة قادرة على فتح جبهة قتالية جديدة في الشرق الأوسط ؟ وهل إيران تستطيع تحمل تدمير كبير لوكلائها الذين يواجهون خطر التدمير المتزامن: في غزة ولبنان وسوريا واليمن؟ وهل تكتفي بالمراقبة عن بعد هذه المرة وتفعيل الصبر الاستراتيجي ككل المرات السابقة أم سيكون لها قول آخر؟
التقارير الإعلامية الغربية ذكرت مؤخراً أن المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي أصدر تعليماته للقادة العسكريين باتباع الصبر الاستراتيجي، وتفادي التورط في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة “بأي ثمن”، وهذا يعني ضمناً امكانية التضحية بواحد أو اثنين من الوكلاء، وتركهم لمصيرهم في أي مواجهة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل.
الواقعية الإيرانية، فضلاً عن مبدأ “التقية السياسية” تملي على المراقب عدم التورط في بناء توقعات حول امكانية قيام إيران بالرد على أي هجوم أميركي، حتى وإن طال هذا الهجوم الداخل الإيراني، أو حتى شخصيات قيادية إيرانية، وعلينا أن نتذكر أن الجنرال قاسم سليماني كان يعد الرجل الثاني في هرمية النظام الإيراني ومع ذلك ظلت إيران بعد اغتياله تتمسك بالحق في الرد “في الوقت والزمان المناسبين”، وهي العبارة الأثيرة التي باتت مرادفة للرغبة في عدم الرد عجزاً أو لسبب من الأسباب العملياتية والاستراتيجية، وبالتالي فإن هذا النهج يقودنا إلى أن النظام الإيراني لن يتجه، على الأرجح، للرد فورياً على الضربات الأميركية، وربما يلجم الحوثيين ويحول بينهم وبين أي رد انتقامي لاسيما ضد المصالح والأهداف الأميركية.
رد إيران ووكلائها على الضربات وعمليات الاغتيال التي يتعرض لها قادة الأذرع الموالية لإيران هو اعتبارها خطط استدراج لصرف الأنظار عما يعتبرونه هزيمة إسرائيلية في قطاع غزة، وهنا يلاحظ أن الحرس الثوري الإيراني قد وصف بيان رسمي اغتيال الرجل الثاني في حركة “حماس” الإرهابية صالح العاروري، بأنها “محاولة إسرائيلية لدفع المقاومة للوقوع في خطأ استراتيجي بالحسابات”، مشيراً إلى أن “الصبر الاستراتيجي للمقاومة وحزب الله، لن يخرج عن إطار العقلانية والمنطق”.
هذه الردود الإيرانية المتقاربة في عمليات اغتيال القيادي بالحرس الثوري رضي موسوي في سوريا، والعاروري وغيرهم، تعني عدم قدرة إيران ووكلائها على تنفيذ تهديداتهم ولاسيما فيما يتعلق بعمليات الاغتيال.
بلاشك أن أحد أهم دوافع الحذر الإيراني في خوض أي مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أو/ و إسرائيل، هو أن هذه المواجهة قد تكون محسومة النتائج مسبقاً، وعلينا أن نفرق تماماً بين الحرب التقليدية والحروب غير التقليدية كالتي يخوضها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، حيث لا تصلح الأخيرة مطلقاً مقياساً لقدرات الجيش الإسرائيلي في الحرب التقليدية، والإيرانيين يعرفون ذلك جيداً، ويعرفون حجم التفوق الإسرائيلي في مجال الاستخبارات والمعلومات، حيث يمكن أن تطال الاغتيالات قيادات إيرانية كبيرة.
يخشى النظام الإيراني أيضاً ضعف جبهته الداخلية والهشاشة الأمنية التي تعجز عن منع تفجيرات كالتي حدثت في كرمان منذ أسابيع قلائل، في منطقة يفترض أنها تتمتع بأقصى درجات الصرامة الأمنية. وتدرك إيران أيضاً أن مرحلة مابعد غزة قد تشهد ترتيبات أمنية إقليمية جديدة، وأن وكلائها يمكن أن يلعبوا دوراً حيوياً في تعزيز موقف إيران وقدراتها التفاوضية في تلك المرحلة، فضلاً عن كونها لا تأبه كثيراً للعمليات العسكرية التي تنفذها الولايات المتحدة او إسرائيل وتتمسك بصبرها الاستراتيجي وما يمكن أن يحققه على المدى البعيد وليس القصير، لاسيما أنها تدرك أن الرئيس بايدن يعيش عام الانتخابات الرئاسية، وأنها لن تمنحه الفرصة للظهور بمظهر الرئيس القوي الذي يدافع عن الولايات المتحدة وإسرائيل ويحشد الرأي العام الأميركي خلفه، بل ستعمل على الأرجح على البحث عن أوراق تزيد موقفه الداخلي حرجاً، وتضعف فرص فوزه بالانتخابات ولاسيما أن مجرد تهديد أمن الممر البحري في باب المندب يتسبب في رفع أسعار النفط ويؤثر سلباً في الاقتصاد الأميركي.