عروبة الإخباري –
درج – باسكال صوما –
قد يعتقد المرء للوهلة الأولى، ألا حرب ولا خوف، وأن بيروت ما زالت تحافظ على تماسكها ويعيش ناسها كما يشاؤون، كما أنهم لم ينزحوا من بيوتهم وما زال أطفالهم يذهبون إلى المدارس. لكن العيش في المدينة لا يشبه النظر إليها من فوق أو من بعيد، الحرب هنا، والعتمة شاملة ولا يمكن أن تنفصل العاصمة عن الجسم المريض المضطرب.
تزداد بيروت عتمةً، والأمر الآن لم يعد متعلقاً بالكهرباء المقطوعة فقط، فبعض العتمة يأتي من الداخل، من القلب مثلاً أو من الأطراف. القلب المنهك اجتماعياً ونفسياً، والأطراف الجنوبية حيث غياب الدولة المدوّي والحرب، وإن كنا ما زلنا نسمّيها بلغتنا الصحافية المنمّقة “اشتباكات”.
أمشي يومياً 200 متر من القهوة التي أكتب فيها باتجاه سيارتي، هي مسافة لا تعني أي شي في علم الرياضة أو في علوم التنظيم المدني، 200 متر كافية لأرتعب إذا كانت الساعة قد تخطّت الخامسة عصراً وحلّ الليل على البلاد. 200 متر قد تعرّضني للسرقة والنشل أو التحرش أو القتل، من يدري؟ مدينة لا مصابيح مضاءة فيها ولا أمن، فقط حركة راكضين وراكضات باتجاه بيوتهم أو سياراتهم، وحركة قد لا نلحظها للمجرمين أو الجائعين الذين قد يستسهلون سرقة حقائبنا المحمولة أو دراجاتنا النارية أو سياراتنا أو ثلاجاتنا.
بيروت مدينة تحتوينا كلنا منذ سنوات، نحن أولاد الأطراف والمزارعين وأولاد اللجوء وأولاد الأحلام وأطفال التعب، لكن الاحتواء لا يعود حقيقياً في مدينة غير آمنة، لا سيما للنساء وللذين لا تسندهم واسطة أو رجال أمن (سيكيوريتي).
على مقربة من بيروت، وقع تفجير وعملية اغتيال قبل أسبوع، وإن كنا واصلنا الحياة بشكل طبيعي، لكنّ ما حدث تأكيد جديد على أننا تحت التهديد وأننا لسنا بمأمن، وأن حيواتنا مفتوحة على خيارات الموت من جديد، الموت بتفجير، برصاص احتفالي، أو مثلاً لأنك مررت على شارعٍ مفخخ بالحفر وسقطت في إحداها.
بيروت مدينة تحتوينا كلنا منذ سنوات، نحن أولاد الأطراف والمزارعين وأولاد اللجوء وأولاد الأحلام وأطفال التعب
على مستديرة الدورة، كان عليّ انتظار أحد الأصدقاء يوم أمس، 5 دقائق مرت عليّ دهراً، حافلات وسيارات وأناس يبدون غريبي الأطوار، الكثير من الرجال المتحملقين حولي وحول السيارات المركونة، عاملات مهاجرات أظن أنهن كن ينتظرن الباص أو “السرفيس” بأعين يأكلها الرعب. ساحة مفتوحة ومعدّة تماماً لارتكاب أي جريمة!
5 دقائق فقط، شعرت بعدها بأنني أحتاج إلى عناق طويل داخل غرفة مقفلة أبوابها بإحكام، ومرّ ببالي أن أمضي ما تبقى من الأسبوع في البيت، من دون حراك، وأن ألغي كل مشاريعي ومواعيدي. من حسن حظي أن المسؤوليات تلاحقني ولا أستطيع الهرب منها والتسكّع على الأريكة!
قد تبدو بعض شوارع العاصمة حية وعادية، فيها سهر ومقاهٍ وملاهٍ وزمامير وبشر مستعجلون، وكل شيء على ما يرام، وقد يبدو الناس بعيدين جداً مما يحدث في الجنوب أو حتى في الضاحية الجنوبية.
قد يعتقد المرء للوهلة الأولى، ألا حرب ولا خوف، وأن بيروت ما زالت تحافظ على تماسكها ويعيش ناسها كما يشاؤون، كما أنهم لم ينزحوا من بيوتهم وما زال أطفالهم يذهبون إلى المدارس. لكن العيش في المدينة لا يشبه النظر إليها من فوق أو من بعيد، الحرب هنا، والعتمة شاملة ولا يمكن أن تنفصل العاصمة عن الجسم المريض المضطرب.
مطار بيروت اختُرق سيبيرانياً قبل أيام وتوقّف العمل في أجزاء بارزة فيه، وهذا الاختراق لم يكن سوى صورة مبسّطة عن بيروت المخترقة والمفتوحة على الاحتمالات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية المرعبة.
في شهر الأعياد، كانت بيروت بلا فرح وبلا رغبة في شيء، فيما كانت مدن أخرى تتنفّس قليلاً أو تحاول أن ترمم قطاعاتها المتصدّعة بسبب الأزمة المستمرة منذ عام 2019.
قال أحدهم فيما كنا نتجوّل في القرية الميلادية في مدينة البترون، شمال لبنان، حيث تقام فعاليات ونشاطات ترفيهية وتجارية، “البترون هي العاصمة”. أخشى أن بيروت أصبحت عاصمة حزننا، وقد وزّعت أدوارها الباقية على “عواصم” أخرى