عروبة الإخباري –
ارفع صوتك – حسناء بوحرفوش
في زقاق بمدينة صيدا جنوبي لبنان، هناك بناء يحمل رمزية خاصة، يؤكد الوجود اليهودي في لبنان، حيث ترتفع القناطر مكسوة بالرسومات الدينية في الكنيس الذي تحوّل إلى بيت.
في طرابلس عاصمة الشمال، يوجد كنيس آخر قرب ما كان يعرف بخان العسكر، أخفى الزمن والإهمال معالمه، وغطت مداخله النفايات. أما في بيروت، أسهمت بعض أعمال الترميم بإبراز الكتابات باللغة العبرية والنقوش ونجمة داوود البادية على القناطر وإنقاذ القرميد المضعضع.
يعود الوجود اليهودي في لبنان إلى الفترة التي هرب فيها يهود الأندلس من إسبانيا بدايات القرن السابع عشر، وفقا للمؤرخ الدكتور عيسى دياب.
يقول لـ”ارفع صوتك”، إن “الأرشيف وكتب التاريخ تحفظ هذا الوجود الذي اندثر، وبلغ ذروته بالتزامن ونشوء لبنان الكبير عام 1920، وكفله الدستور ومنحت الطائفة حقوقها كسِواها على الرغم من أنها لم تتمتع بتمثيل في مجلس النواب”.
الأرشيف المنسي
في كتابه “يهود لبنان: من أبراهام حتى اليوم، حكاية طائفة مختفية” (Juifs du Liban: D’Abraham à nos jours, histoire d’une communauté disparue)، يجمع المفكر اللبناني المتخصص في الشؤون اليهودية ناجي جرجي زيدان، معلومات عن دورها في تنمية لبنان، ثم الانخفاض الدراماتيكي في عددها من 3500 إلى 29 فرداً فقط”.
ويقول دياب في مقابلة مع “ارفع صوتك”: “تواجد اليهود في مناطق لبنانية مختلفة، واندثر تواجدهم تدريجياً، حيث أغلق الكنيس اليهودي في مدينة طرابلس الذي يعود لبدايات العصر الإسلامي. ومع الزمن لحق إهمال كبير بمقبرتهم في المدينة، واستعيض عنها بمقبرتهم في بيروت لدفن شحادة ابن ايليا صفدي، آخر حاخام يهودي في طرابلس”.
“أما في مدينة صيدا، فاليهود هناك منذ نحو ألف عام. في حارتهم كنيس وحيد وفرن وعقارات ومقامات ومدرسة ومقبرة ومطربة لبنانية يهودية كانت تعرف باسم أمل شوقي، نقل عنها في الإعلام مغادرتها إلى إسرائيل. لكن مفترق الطرق كان بعد حرب عام 1967 ومن بعدها مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. من المحطات الرمزية، مغادرة آخر حاخام يهودي بلاد الأرز في عام 1978″، يتابع.
يقول الباحث طارق كوى صاحب مشروع “ذكريات بيروت”: “في محيط بيروت، لا يخفى الوجود اليهودي على أحد. يعيدنا البحث عن تاريخهم القديم إلى شارع فوش (Foch) حيث جامع الدباغة الذي استوحى اسمه من أحد أبواب بيروت وسورها، حين كان اليهود يمتهنون مصلحة دباغة الجلود”.
وعرف عن يهود لبنان، بحسب كوى حتى ستينيات القرن الماضي، امتهانهم مصالح عدة في عالم المال والتسليف والخياطة وتجارة الذهب والأقمشة والتنجيد والأعمال والتجارة.
ويتحدث عن بنك صفرا الذي أخذ اسمه من عائلة صفرا اليهودية ويقع في شارع اللمبي ببيروت.
عمل الكثير من التجار اليهود في شارع اللمبي، وكان بعضهم من جذور إيرانية، وامتهنوا تجارة السجاد، لكن مع اندلاع حرب عام 1967، ودخول المزيد من اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، بدأوا ببيع محالهم، وغادروا البلاد تدريجياً، فلم يبق إلا قلة تفضل العيش بصمت بعيداً عن الاتهامات بعلاقتها مع إسرائيل.
أملاك يهودية
حروب عدد من الجيوش العربية مع إسرائيل وتداعياتها على الفلسطينيين، خلقت نوعاً من المعاداة لوجود اليهود في أغلب الدول العربية، وكانت لبنان بينها.
يذكر المؤرخ طالب قرة أحمد، في كتاب “الطائفة اليهودية في صيدا: تاريخها وحضورها”، محاولة طمس وجودها من خلال تغيير اسم حارة اليهود في صيدا إلى حارة القدس، وإزالة الأعياد اليهودية من الرزنامة اللبنانية الرسمية، وإقفال المدرسة المخصصة لهم، حيث كانت جزءاً من سلسلة مدارس تعرف باسم (الإليانس).
توترت العلاقات مع يهود لبنان بعد أن عمد الجيش الإسرائيلي على التواصل مع بعضهم وتشجيعهم على مرافقتهم إلى إسرائيل، وخوِنوا واتهِموا بالعمالة، لكن هذا “لا يعني أن جميع اليهود اللبنانيين كانوا من الداعمين لإسرائيل” وفقاً لكتاب قرة أحمد.
في 26 أغسطس 1929، نظم يهود لبنان تظاهرة بالتوازي مع التظاهرات المنددة في القدس ضد وعد بلفور، ووقع الحاخام اليهودي في صيدا على عريضة التنديد، بحسب مؤلف كتاب “الطائفة اليهودية في صيدا: تاريخها وحضورها”.
وتنوعت الهجرة اليهودية من لبنان في وجهتها، فذهب البعض إلى إسرائيل، وآخرون توزعوا بين دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
مع ذلك، لم ينته وجودهم في السجل العقاري، إذ ما تزال الكثير من الممتلكات الخاصة مسجلة بأسمائهم، فكان لهم 17 كنيساً، وبعض مالكيها أوكل أشخاصاً لجمع الإيجارات ممن استفادوا من مبانيها بشكل أو بآخر.
في الوقت ذاته، تُركت أوقاف ثانية ككنيس صيدا لتسكنه عائلة مهاجرة، أو مُنح آخر اليهود الحق باحتكار أراضي الطائفة.
وبسبب منع لبنان دخول أي شخص أراضيه بجواز سفر إسرائيلي أو يحمل تأشيرة أو طابعاً إسرائيلياً، يبقى مصير آخر الشواهد على وجود اليهود معلقاً، وتبقى آثاره دليلاً على أن البلد الذي مزقته الحروب، عرف بعض فترات السلم والتعايش.