عروبة الإخباري –
الدستور المصرية – ياسمين الخطيب –
عندما شرعت في كتابة هذا المقال منذ بضعة شهور، تذكرت رائعة جمال الغيطاني «حكايات الغريب»، حيث تعددت الحكايات عن اختفاء مجند مصري حمل العديد من الأسماء.. أحمد.. عبدالرحمن.. خلف.. زخاري.. وينتهي الفيلم ولا أحد يعرف مصير «الغريب»!
وكذلك بطلة هذا المقال، تعددت أسماؤها وحكاياتها، وما زال مصيرها مجهولًا. إنها لوحة أحمد صبري التي حملت أسماء: التأملات الراهبة.. تفكير.. الموناليزا المصرية، وأَشْقت كل من هام بها فنًّا بالبحث عنها، فما هي حكايات الراهبة؟.
عام 1889 باركت آلهة الفن والجمال والإلهام، ميلاد مُرسل جديد، هو الفنان المصري أحمد صبري، الذي ظهرت عليه علامات الموهبة منذ الطفولة، فالتحق بمدرسة الفنون الجميلة، ثم غادر مصر عام 1918 لدراسة الفن التشكيلي بباريس على نفقته الخاصة، بأكاديمية «شوميير»، ثم أكاديمية «جوليان»، حيث تتلمذ على يد الفنان “إيمانويل فوجيرا” رائد الكلاسيكية الحديثة بفرنسا.
وفي عام 1929 بلغت موهبته أشدها، وانتهت فترة التأملات والإرهاصات والرؤى، وبدأت فترة الوحي، فقدم أحمد صبري معجزته للعالمين.. «التأملات» كما سماها هو في البداية.
لم تكن «التأملات» مجرد بورتريه -لاعتبارات فنية وروحية أيضًا- بل هي أهم لوحة في تاريخ التصوير المصري بل العربي، إذ بلغ بها صبري منتهى فن تصوير البورتريه، وصُنف بها رائدًا للكلاسيكية الحديثة في العالم العربي. وقد كان صبري من المؤمنين بالقدرات الروحية، وطاقات المحبة والسلام الهائلة المحيطة بأرواح الصالحين، لذلك رفض أن يصور موديلًا بملابس راهبة، وأصر أن يصور راهبة حقيقية، هي صاحبة العينين الغامضتين التي خُلدت بريشته.
في نفس العام تقدم أحمد صبري إلى «صالون باريس» بلوحته الأسطورية لتكون للناس آية، وكان «صالون باريس» وقتذاك أهم محفل سنوي للفن التشكيلي في أوروبا، وقِبلة يأتي إليها مريدو الفنون الجميلة كل عام من كل فج عميق.
سحرت راهبة أحمد صبري الملأ، فحازت على الجائزة الأولى للصالون، لتكون بذلك أول لوحة عربية تفوز بهذه الجائزة، وانهالت على أحمد صبري العروض لاقتناء «التأملات»، فرفض!
أعرف تمامًا هذا الشعور، الذي يربط الفنان بإحدى لوحاته، إذ يعتبرها قطعة من وجدانه، فيرفض بيعها أو تقديرها بثمن. ولكن ابن آمون لم يبخل على مصر بقطعة من وجدانه، فقال: «لن أبيع هذه اللوحة إلا لمتحف الفن المصري الحديث.. لن أهبها إلا لمصر».
وبالفعل بِيعت اللوحة لمتحف الفن الحديث بـ75 جنيهًا. فماذا فعلت مصر براهبة صبري؟
عام 1960 خرجت اللوحة ضمن مجموعة من لوحات الرواد للعرض بمعرض «جو» المقام بالبرازيل تحت عنوان «مانت فيديو»، ومنه إلى معرض آخر نظمته «جمعية الصداقة العربية الأمريكية» بالولايات المتحدة، وبعد ذلك اختفت اللوحة!.
نعم.. اختفت معجزة أحمد صبري في الولايات المتحدة، ولم تعد بعد ذلك إلى مصر أبدًا!
عام 1972 أرسلت وزارة الثقافة خطابًا رسميًا إلى وزارة الخارجية المصرية تطالبها بالكشف عن مكان اللوحة التي لم تعد منذ تاريخ إعارتها عام 1960، رغم تجديد الأوراق الخاصة بإعارتها دفتريًا بشكل سنوي، فردت إدارة السكرتارية العامة بوزارة الخارجية، بمذكرة تفيد بعدم وجود أي معلومات عن اللوحة!
وانقضت بعد ذلك سنوات طوال، لم يمل خلالها التشكيليون المصريون من المطالبة بالبحث عن “الراهبة” وإعادتها إلى أرض مصر، فلم يجبهم سوى الصدى!
عام 1993 فجر د. أحمد نوار -الذي شغل وقتها منصب رئيس قطاع الفنون التشكيلية- مفاجأة في ندوة مسجلة بالفيديو، وشهد أنه رأى «الراهبة» في سفارة مصر بواشنطن، وأضاف أنه مطمئن إلى وجودها هناك، لأن السفارة المصرية هي أرض ملك مصر أيضًا، ولأن اللوحة مُصانة هناك!
وهو ما أختلف فيه جملة ومضمونًا مع د. نوار، رغم أن ترصيع جدران السفارات بلوحات لكبار الفنانين، عُرف تتبعه كل دول العالم، لكن «الراهبة» ليست مجرد لوحة قيمة لفنان من الرعيل الأول للفن المصري الحديث، ولا هي مجرد لوحة تتخطى قيمتها المادية 100 مليون جنيه، «الراهبة» – كما سبق وذكرت- أهم عمل فني في تاريخ تصوير البورتريه العربي، بالإضافة لكونها أهم لوحات أحمد صبري المُنصَّب رائدًا للكلاسيكية الحديثة في مصر.
إنها لمصر كالموناليزا لفرنسا. هل تستطيع وزارة الثقافة الفرنسية أن تنتزع الموناليزا من مستقرها باللوفر لتعيرها إلى سفارة فرنسا بالفردوس نفسه؟!
كما أن القول بأنها آمنة مصونة في السفارة، يثير سخريتي قبل سخطي، لأنها عُرضة للتلف، حيث إنها لا تخضع للترميم الدوري الذي تخضع له اللوحات بالمتاحف.
كانت كلمات د. نوار هي آخر ما سُمع عن «الراهبة» واختفت بعد ذلك تمامًا، ثم عاودت الظهور عام 2009 من خلال صورة منشورة على الإنترنت يعرف أهل الاختصاص أنها التقطت حديثًا، لأن الصور المتوفرة لها قبل ذلك كانت جميعها قديمة، وبتتبع الأمر اكتُشف أن مُلتقطها مصور أمريكي، ولم يُعرف عن قصة الصورة ما هو أكثر من ذلك!.
لكن تجلّي الراهبة هذه المرة أعاد الأمل لواحد من أخلص مريديها، الذين هاموا وراءها أينما تجلت، هو اللواء نزار أحمد صبري، نجل المُرسل والإمام. فتوجه بسؤاله إلى د. أشرف رضا – رئيس قطاع الفنون التشكيلية وقتذاك- وطالبه باتخاذ الإجراءات الرسمية اللازمة لإعادة المُعجزة إلى أرض مصر كما شاء لها صانعها.
فقام رئيس القطاع بسؤال المستشار الثقافي لمصر بالولايات المتحدة عن اللوحة، فأكد له عدم وجودها بالسفارة المصرية بواشنطن!
أين ذهبت «الراهبة» إذن؟! لا أحد يعرف. يقولون إنها ظهرت في نيويورك بمكتب مندوب مصر الدائم بالأمم المتحدة.. ينبعث الأمل، وتُجرى الاتصالات، وتأتي الإجابة ذاتها: «ليست هناك».
هنا قرر اللواء نزار أحمد صبري أن يتوجه إلى وزير الثقافة وقتذاك، د. عماد أبوغازي، ويطالبه رسميًا بالبحث عن «الراهبة»، فيأبى القدر أن يُكشف اللغز، ويرحل اللواء نزار بعدها بأيام عن عالمنا مخذولًا حزينًا، ليخبر الإمام أن مُعجزته مفقودة.
بعد أعوام، تحدثت إلى حفيد أحمد صبري، علَّني أجد لديه ما يشفي فضولي، فأخبرني أنه ما زال يبحث عن إرث جده الضائع، والمتمثل في 41 لوحة، غادرت متحف الفن الحديث، منها 11 لوحة خارج مصر! بالإضافة لمطالبته وزارة الثقافة بإقامة متحف خاص بأعمال أحمد صبري، لكن كل رجاءاته تذهب سدى.
عام 2005 تتجلى «الراهبة» من جديد!
في حوارها مع الصحفي طارق عبدالعزيز بجريدة «أخبار اليوم» بتاريخ 6-9-2015، تؤكد عميد كلية الفنون الجميلة السيدة صفية القباني، أن لديها معلومات عن «الراهبة»، مصدرها صديقتها السيدة ليلى صلاح الدين، حرم وزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط، هذه المعلومات مفادها أن اللوحة ليست في مكتب مندوب مصر الدائم بالأمم المتحدة ولكنها في بيته، وتحديدًا (فوق الكنبة على إيدك الشمال أول ما تدخل)! والمفاجأة الثانية التي فجرتها السيدة صفية في الحوار ذاته، أن لوحة الفنان محمود سعيد «ذات العيون الخضراء» التي يحسبها الجميع مفقودة، موجودة أيضًا في نفس المقر!
لا أظن أن هناك أدنى شك في صحة هذه المعلومات، لأن السيدة ليلى صلاح الدين أقامت بهذا المقر هي وزوجها طوال الفترة التي شغل بها منصب المندوب الدائم لمصر بالأمم المتحدة، والتي امتدت من 1999 وحتى 2004.
كان هذا آخر تجلٍّ للراهبة، وآخر ما سمعت عنها، بعد طريق طويل من البحث. لا أدري ما الذي دفعني للطواف حولها مع جموع المريدين، لكني تذكرت أثناء طوافي، جلستي في متحف اللوفر أمام معجزة تيتيان «نقل المسيح»، بينما انهمرت دموعي وأنا أتأمل ملامح العذراء وهي تنتحب. اقتربت مني عجوز تسألني متعاطفة: مسيحية؟ قلت: بل تشكيلية، عقيدتي الفن وتيتيان أحد أنبيائي.
كذلك أحمد صبري، لكنه أقرب وأحب إلى القلب، لأنه نبي من أُمتي، لأنه المصري الرائد، صاحب المعجزة التي لا أبالغ إذا قلت إنها على المستوى الفني والتاريخي والحضاري، لا تقل قيمة عن رأس نفرتيتي، وقناع توت عنخ آمون، وأعمدة الأزهر، وتمثال نهضة مصر.
لا أعرف ما الإجراءات الرسمية الواجب اتباعها لاستعادة «الراهبة»، لكني لا أملك إلا ريشتي وقلمي، الذي أخاطب به الآن وزير الثقافة، ووزير الخارجية، ورئيس الجمهورية، وكل مؤمن بعقيدة الفن، وأطالبهم بإعادة اللوحة إلى متحف الفن المصري الحديث، كما شاء لها صانعها.
أعيدوها لأن أحمد صبري قال: “لن أهبها إلا لمصر”، أعيدوها لأنها بمثابة وثيقة تاريخية تؤكد أن عصر نهضة الفن العربي بدأ هنا، على أرض مصر، وبريشة أحمد صبري.
أنهي مقالي كما بدأته بفيلم «حكايات الغريب»، وتحديدًا بالجملة التي رُددت في المشهد الأخير:
“إللي عايز يساعدنا ييجي معانا.. إيد على إيد تساعد.. هنلاقيه.. عمره ما هايبقى فص ملح وداب.. إللي عايز يساعدنا ييجي معانا”.