عروبة الإخباري –
اندبندنت عربية –
فتحت حرب غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي باباً على جدل إشكالي لطالما فرز عمودياً أصحاب الرأي والمفكرين، ألا وهو معايير النصر والهزيمة في المواجهات بين حركات المقاومة وإسرائيل.
وينطلق السجال بطبيعة الحال على خلفية مشروعين في المنطقة، مشروع يرى ألا حل مع إسرائيل إلا القتال والموت حتى ولو أبيدت مناطق القتال عن بكرة أبيها، ومشروع آخر تقوده دول الاعتدال ويقارب المشهد بأنه آن الأوان كي تقارب القضية الفلسطينية خارج دوامة العنف والقتال، والأخذ بعين الاعتبار أعمال القتل التي يذهب ضحيتها آلاف المدنيين والنساء والأطفال والعاجزين، فضلاً عن المآسي والتدمير والتشرد والنزوح في صفوف الفلسطينيين، وذلك كله يتأتى من الدخول في معارك مع إسرائيل من دون حساب اليوم التالي للحرب.
غزة: “هذه ليست حياة”
تصف رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر ميريانا سبولياريتش معاناة السكان في قطاع غزة بأنها “لا تطاق”، وتقول إنه “من غير المقبول ألا يكون لدى المدنيين مكان آمن للذهاب إليه في غزة، ومع وجود حصار عسكري لا توجد استجابة إنسانية كافية ممكنة حالياً”.
وتعرّض قطاع غزة الذي يقطنه نحو مليونا فلسطيني ويعد أحد أكثر الأماكن كثافة سكانية في العالم لحروب إسرائيلية عدة منذ سيطرة “حماس” عليه في يونيو (حزيران) 2007، الحركة التي صنفتها الحكومة الإسرائيلية منظمة إرهابية في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، معلنة حينها أن غزة “كيان معاد” وفرضت حصاراً شاملاً عليه.
لكن الحرب الأخيرة التي أطلقتها عملية “طوفان الأقصى” وسمتها تل أبيب “السيوف الحديدية” تعد الأعنف والأكثر دموية بين الحروب الستة السابقة التي اندلعت بين “حماس” وإسرائيل، ووفقاً لآخر الإحصاءات في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أعلنت وزارة الصحة التابعة للحركة في القطاع مقتل أكثر من 17400 شخص، أكثر من ثلثيهم من النساء والأطفال، إضافة إلى أكثر من 46 ألف مصاب وقرابة 1.9 مليون نازح يعيشون أوضاعاً إنسانية مزرية.
وبحسب وزارة الصحة في القطاع فقد أدى القصف الإسرائيلي إلى إخراج 20 مستشفى و46 مؤسسة ومركز للرعاية الأولية من الخدمة بصورة كاملة، بينما لا يزال 36 عاملاً من الكوادر الطبية وعلى رأسهم مدير مستشفى الشفاء في غزة محمد أبو سلمية معتقلين.
وتسببت الغارات الإسرائيلية المتواصلة على القطاع بفقدان 7500 شخص، كثير منهم لا يزالون تحت الأنقاض، وتدمير 103 مقار حكومية، والإضرار جزئياً أو كلياً بأكثر من 300 ألف وحدة سكنية، وإخراج نحو 67 مدرسة عن الخدمة، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
كما أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى تحويل معظم المناطق الشمالية في قطاع غزة إلى مناطق “غير صالحة للسكن”، وفقاً لتقرير لمجلة “بوليتيكو” الأميركية المنشور في الـ 23 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وتقدر الأمم المتحدة أن 1.7 مليون شخص أصبحوا مهجرين بعد نزوحهم من شمال القطاع نحو الجنوب.
وقال أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر في مدينة غزة الذي هرب إلى مصر مخيمر أبو سعدة لـ”بوليتيكو”، “لقد تحول شمال غزة إلى مدينة أشباح كبيرة”، مضيفاً “ليس لدى الناس ما يعودون له”. ويقول الكاتب الفلسطيني إبراهيم مهتدي في مقالة نشرتها صحيفة “غارديان” البريطانية في الـ 14 من نوفمبر الماضي إن “غالبية الموارد الحيوية والبنية التحتية في جميع أنحاء قطاع غزة استهدفت خلال القصف الإسرائيلي وتم تدميرها بصورة لا يمكن إصلاحها، فلا ماء ولا غذاء ولا دواء ولا مواصلات ولا وقود، ويعيش الناس على بقايا الطعام التي تنفد بسرعة، والمتاجر فارغة والمال لا معنى له عندما لا يتبقى شيء للشراء، ويلجأ عشرات الآلاف من الأشخاص إلى أي مكان يستطيعون اللجوء إليه لأن 1.5 مليون شخص نزحوا قسراً، بما في ذلك عائلتي، واضطروا إلى مغادرة منازلهم، وهذه ليست حياة”.
“حماس” انتصرت أم لم تنتصر؟
وفي خضم الخسائر الهائلة التي طاولت البشر والحجر حيث سويت أحياء بأكملها بالأرض ومسحت حوالى 50 عائلة غزاوية من السجل المدني، يعتبر فريق “الممانعة” أن “حماس” انتصرت، معللاً ذلك بأسباب عدة ومنها أن قرار شن الهجوم يوم السابع من أكتوبر كان بيد الحركة، وصمودها يعتبر أسطورياً بعد أكثر من شهرين على بدء الحرب، فضلاً عن الخسائر البشرية الفادحة التي تكبدتها إسرائيل خلال عملية التسلل إلى غلاف القطاع.
ويشدد هؤلاء على أن بشائر النصر هي في إفشال تحقيق تل أبيب الأهداف التي أعلنتها عند بدء العملية العسكرية، وتشمل استعادة الأسرى عبر الحملة العسكرية وليس عبر التفاوض، والقضاء على “حماس” وضمان أن لا يشكل قطاع غزة تهديداً على أمن إسرائيل في المستقبل. ويضيف رافعو شعار النصر أن “حماس” استطاعت في المقابل أن تحقق هدفين سياسيين، هما إعادة القضية الفلسطينية إلى الضوء، ومبادلة جزء من الأسرى الإسرائيليين والأجانب بالأسرى الفلسطينيين.
أما وجهة النظر الأخرى فعبر عنها الإعلامي والكاتب المصري خالد البري عبر مقالة نشرت في صحيفة “الشرق الأوسط” في الـ 16 من أكتوبر الماضي، إذ كتب أنه بالنسبة إلى “حماس” فهو يتفهم “تماماً الحرج من انتقادها علناً وسط المأساة الملمة بالشعب الفلسطيني، لكن خلف الأبواب المغلقة حان الوقت لكي تفهم ’حماس‘ أن وضع الفلسطينيين صار أسوأ مما كان عليه حين تولوا مسؤولية القطاع، وأن معادلة الانفراد بالقرار مع طلب المشاركة في تحمل العواقب لا يمكن أن تستمر، وأن رفض المسار السياسي يضيق خيارات الفلسطينيين، مثله مثل الإجراءات الإسرائيلية المتعنتة، ويقدم إسرائيل للعالم في صورة الباحث عن شريك للسلام ولكن من دون جدوى، كما يجب أن تفهم الحركة أن ارتباطاتها الإقليمية حملت القضية الفلسطينية تركة انحيازاتها وأدخلتها طرفاً في نزاعات مع جيرانها الأقربين، وهذا لا يصب في مصلحة الفلسطينيين أبداً”.
كذلك أشار وزير الإعلام والثقافة الكويتي السابق سعد بن طفلة العجمي عبر مقالة له نشرت في “اندبندنت عربية” بتاريخ الـ 24 من نوفمبر الماضي إلى أن “حماس” تعتبر أن “هزيمة إسرائيل نصر لها، وهو شعور مشروع لكن هذا النصر بالنتيجة لم يتحقق إلا على أشلاء أكثر من 15 ألف ضحية حتى الآن، معظمهم من الأطفال والنساء، وأكثر من ضعفهم من الجرحى، ومليون ونصف المليون مشرد، ودمار مرعب لأكثر من 60 ألف مبنى في قطاع غزة عموماً”.
وتابع، “من غير المنطقي ولا الإنساني أن يتلذذ فريق ’حماس‘ بحلاوة هذا النصر بعد هذه المذبحة والمآسي وهذا الدمار الهائل، بل إن العالم الذي انتفض مع غزة انتفض من أجل الضحايا الأبرياء ومناهضة للإبادة الوحشية التي لا يمكن لأي إنسان صادق المشاعر أن يبحث في ثناياها عن الانتصار، وأية محاولة للتعبير عن انتصار ’حماس‘ سيترجمها العالم كلامبالاة بدماء الأبرياء والضحايا من الأطفال والنساء والمدنيين والمشردين، وسيذكرنا بانتصار حسن نصرالله وحزبه الذي اعتبر بقاءه وبقاء تنظيمه عام 2006 نصراً على رغم ’خراب البصرة‘ يوم قتل في لبنان آلاف الضحايا ومئات آلاف المشردين، وتدمرت بناه التحتية وانحدرت أوضاعه منذ تلك الحرب العدوانية إلى يومنا هذا، وهي الحرب التي ندم ’حزب الله‘ على إشعالها باختطاف جنديين إسرائيليين، وعلى فريق ’حماس‘ أن يستثمر هزيمة إسرائيل لا أن يحتفل بها متناسياً مآسي الحرب على الشعب الفلسطيني”.
معايير النصر والهزيمة
وفي كتابه “اختلال العالم” يستغرب الأديب والروائي والصحافي اللبناني أمين معلوف كيف أن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، صاحب أكثر الهزائم العربية إذلالاً، هو البطل الأكثر شعبية عند الجماهير العربية، وكيف أن أنور السادات صاحب الانتصار العسكري العربي الوحيد، هو أكثر زعيم مكروه في الشارع العربي.
ووفقاً للمعايير المختلفة الآنفة الذكر، فهل ربحت “حماس” أم انهزمت؟
يقول الكاتب والصحافي قاسم قصير لـ “اندبندنت عربية” إن “مقياس الهزيمة والنصر يتحدد بحسب الأهداف، إذ إن الإسرائيلي وضع أهدافاً عدة ومنها القضاء على حركة ’حماس‘ واستعادة الأسرى وتهجير الفلسطينيين وإعادة بناء سلطة جديدة في غزة، وحتى الآن لم يحقق أهدافه”.
ويتابع الكاتب اللبناني أن “’حماس‘ تقاتل حتى الآن وهي صامدة على رغم الدمار والشهداء، فإن ما جرى أعاد القضية الفلسطينية إلى الأولوية دولياً وإقليمياً، وعلينا انتظار نهاية المعركة حتى نحدد الجواب النهائي”.
هوس البحث عن النصر
في حين يقول الباحث والمحلل السياسي اليمني حسين الوادعي لـ “اندبندنت عربية” إن طرح سؤال “هل انتصرت ’حماس‘ أم انهزمت يحمل إشكالات كبيرة، أحدها معايير النصر، وهذا الهوس بالبحث عن النصر في أشد الهزائم إذلالاً”.
ويتابع أن “’حماس‘ بالتأكيد انهزمت سياسياً على رغم إحساسها أنها ربحت بالتعاطف الشعبي معها لأنها تقاتل إسرائيل، إلا أن هذا التعاطف وقتي وسيزول ما إن يظهر حجم الدمار الهائل الذي تسببت به”.
وحول أهالي غزة هل انتصروا أو هزموا هم بدورهم يعتقد الباحث اليمني أن “الغزاويين خسروا كل شيء تقريباً، بيوتهم وأعمالهم ومستقبلهم وأرواح أقاربهم وعائلاتهم، مع دمار سيقذف بهم طويلاً في هاوية الفقر والأمية والأوبئة”. ويردف الوادعي أن “’حماس‘ تستطيع الاحتفال بالنصر في حال واحدة فقط وهي أن تعتبر نفسها ميليشيات مسلحة لها أهدافها الخاصة المعزولة عن أهداف الفلسطينيين وغير مبالية بالثمن الضخم الذي سيدفعونه، فإذا نظرنا إلى ’حماس‘ مثل نظرتنا إلى أية عصابة مسلحة تسعى إلى تحقيق مكاسبها الخاصة بالعنف، ففي هذه الحال قد يكون بقاؤها ولو حتى بـ 20 في المئة من مقاتليها نوعاً من النصر البائس، لكنه نصر لا يختلف عن نصر لأي عصابة خارجة على القانون، أما في الإطار الوطني الأخلاقي فإن ’حماس‘ انهزمت سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً لأنها تركت الغزاويين يموتون تحت آلة الحرب الإسرائيلية، واختبأ عناصرها في الأنفاق ليكتفوا بالعنتريات الفارغة”.
ويضيف الوداعي أن “العربي يؤمن بحتمية النصر لا بواقعيته ومتطلباته، ولا تخضع مفاهيم النصر والهزيمة في السياسة العربية للمعايير العقلانية المعهودة، فالنصر عند العربي ليس بالضرورة كسب المعركة، وخسارة الأرض والأرواح ليست بالضرورة هزيمة، وإذا اعترف بهزيمة ما فإن هذا الاعتراف يكون مشروطاً بتحفظين كبيرين، الأول إلقاء مسؤولية الهزيمة على طرف خارجي مثل الإمبريالية أو الاستعمار أو أميركا، والثاني البحث عن اسم بديل للهزيمة، فهزيمة 1948 اسمها النكبة وهزيمة 1967 هي النكسة”.