عروبة الإخباري –
كان الفاروق قدوةً في عدله، أسر القلوب، وبهر العقول، فالعدل في نظره دعوةٌ عمليَّةٌ للإِسلام، به تفتح قلوب النَّاس للإِيمان، وقد سار على ذات نهج الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فكانت سياسته تقوم على العدل الشَّامل بين النَّاس، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتَّطبيق نجاحاً منقطع النَّظير، لا تكاد تصدِّقه العقول، حتَّى اقترن اسمه بالعدل، وإلى جانب عدله صنع الفاروق أحداثاً ملهمة غيَّرت مجرى التاريخ والحضارة الإسلامية ويتعلق الأمر بـ:
1-التقويم الهجري
يعدُّ التَّاريخ بالهجرة تطوُّراً له خطره في النَّواحي الحضارية، وكان أوَّل من وضع التَّاريخ بالهجرة عمر، ويُحكى في سبب ذلك عدَّة رواياتٍ، فقد جاء عن ميمون بن مهران: أنَّه قال: دُفِعَ إِلى عمرـ رضي الله عنهـ صكٌّ محلُّه في شعبان، فقال عمر: شعبان هذا الَّذي مضى، أو الَّذي هو آت، أو الذي نحن فيه، ثمَّ جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ضعوا للنَّاس شيئاً يعرفونه، فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الرُّوم. فقيل: إِنَّه يطول وإِنَّهم يكتبون من عند ذي القرنين. فقال قائل: اكتبوا تاريخ الفرس، قالوا: كلَّما قام ملكٌ طرح ما كان قبله. فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة فوجدوه أقام عشر سنين، فكتب، أو كتب التَّاريخ على هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن عثمان بن عبيد الله، قال: سمعت سعيد بن المسيِّب يقول: جمع عمر بن الخطَّاب المهاجرين، والأنصارـ رضي الله عنهم ـ فقال: متى نكتب التَّاريخ ؟ فقال له عليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ: منذ خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من أرض الشِّرك ـ يعني: من يوم هاجر ـ قال: فكتب ذلك عمر بن الخطَّاب- رضي الله عنه-. وعن ابن المسيِّب قال: أوَّل مَنْ كتب التَّاريخ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لستَّ عشرةَ من المحرَّم بمشورة علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقال أبو الزِّناد: استشار عمر في التَّاريخ، فأجمعوا على الهجرة.
وروى ابن حجر في سبب جعلهم بداية التَّاريخ في شهر محرم، وليس في ربيع الأوَّل الشَّهر الَّذي تمَّت فيه هجرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ الصَّحابة الذين أشاروا على عمر وجدوا: أنَّ الأمور الَّتي يمكن أن يؤرِّخ بها أربعة، هي: مولده، ومبعثه، وهجرته، ووفاته، ووجدوا: أنَّ المولد، والمبعث لا يخلو من النِّزاع في تعيين سنة حدوثه، وأعرضوا عن التأريخ بوفاته لما يثيره من الحزن، والأسى عند المسلمين، فلم يبق إِلا الهجرة، وإِنَّما أخروه من ربيع الأول إِلى المحرم؛ لأنَّ ابتداء العزم على الهجرة كان من المحرَّم؛ إِذ وقعت بيعة العقبة الثَّانية في ذي الحِجَّة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أوَّل هلالٍ استهلَّ بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال محرَّم، فناسب أن يجعل مبتدأً.. ثمَّ قال ابن حجر: وهذا أنسب ما وقعتُ عليه من مناسبة الابتداء بالمحرَّم.
وبهذا الحدث المتميِّز أسهم الفاروق في إِحداث وحدةٍ شاملةٍ بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى في شبه الجزيرة، حيث ظهرت وحدة العقيدة بوجود دينٍ واحدٍ، ووحدة الأمَّة بإِزالة الفوارق، ووحدة الاتِّجاه باتِّخاذ تاريخٍ واحدٍ، فاستطاع أن يواجه عدوَّه وهو واثقٌ من النَّصر.
2- لقب أمير المؤمنين:
لمَّا مات أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وكان يدعى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المسلمون: من جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيطول هذا، ولكن أجمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يُدعى به مَنْ بعده من الخلفاء، فقال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن المؤمنون، وعمر أميرنا، فدُعي عمر أمير المؤمنين، فهو أوَّل من سُمِّي بذلك.
وعن ابن شهاب: أنَّ عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ سأل أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، لمَّا كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يكتب: من أبي بكرٍ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يكتب بعده: من عمر بن الخطاب خليفة أبي بكرٍ، مَنْ أوَّل من كتب: أمير المؤمنين ؟ فقال: حدَّثتني جدَّتي الشِّفاء ـ وكانت من المهاجرات الأول، وكان عمر إِذا دخل السوق؛ دخل عليها ـ قالت: كتب عمر بن الخطاب إِلى عاملٍ بالعراق: أن ابعث إِليَّ برجلين جلدين نبيلين أسألهما عن العراق، وأهله، فبعث إِليه صاحب العراقين بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقدما المدينة، فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد، ثمَّ دخلا المسجد، فوجدا عمرو بن العاص، فقالا له: (يا عمرو ! استأذن لنا على أمير المؤمنين) فدخل عمرٌو، فقال: السَّلام عليك يا أمير المؤمنين ! فقال له عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا بن العاص؟! لتخرجنَّ ممَّا قلت، قال: نعم، قدم لبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقالا: استأذن لنا أمير المؤمنين، فقلت: أنتما والله أصبتما اسمه، إِنَّه أمير، ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب من ذلك اليوم.
وفي روايةٍ: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: أنتم المؤمنون، وأنا أميركم، فهو سمَّى نفسه، وبذاك يكون عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه أوَّل من سمِّي بأمير المؤمنين.
وأنَّه لم يسبق إِليه. وإِذا نظر الباحث في كلام أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ رأى أنَّ جميعهم قد اتَّفقوا على تسميته بهذا الاسم، وسار له في جميع الأقطار في حال ولايته.