عروبة الإخباري –
لبنان 24 – نوال الأشقر –
ما ترتكبه اسرائيل في غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، من تطهير عرقي وحرب إبادة استثنائيّة في همجيتها، لجهة قصف منازل المدنيين، واستهداف الإعلاميين وعائلاتهم، والمستشفيات، والمدارس، ومقرّات الأمم المتحدة، وقتل المرضى على أسرتهم والأطفال والرضع والشيوخ والنساء، بنيران الغارات والفوسفور، مشاهد مألوفة في سجّل الجنرالات الإسرائيلية. ولكنّ الجديد، تمثّل في تفاعل شعوب العالم مع الحرب الشعواء على غزة، ونزول مئات الآف الغاضبين إلى الشوارع، بزخم غير مسبوق، في عدد كبير من عواصم العالم الغربي، تنديدًا بالمجازر الإسرائيليّة، ورفضًا لتغطية حكوماتهم ممارسات اسرائيل، وانسحاب التحرّك الداعم للفلسطينيين على الجامعات الأميركية، ومدرّجات بعض الأندية الأوروبيّة، حيث رفعت جماهير أوساسونا وسيلتيك وباريس سان جيرمان في مباريات رسميّة العلم الفلسطيني، وصدحت الحناجر وهتفت باسم فلسطين، في مشهدية لم تألفها القضية الفلسطينيّة في أيّ من محطّاتها الزاخرة بالنكبات والتضحيات والمآسي، منذ زمن بلفور، قبل 75 عامًا.
بداية تحوّل في الرأي العام الغربي
هذا التبدّل الذي تشهده المجتمعات الغربية حيال التعامل مع الصراع التاريخي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والذي كان يتأرجح في السابق بين عدم الإكتراث، أو تبنّي الرواية الإسرائيلية بالكامل، وصولًا إلى نزع الغشاوة عن أعين الملايين عبر العالم، وسير مئات الآلاف في تظاهرات حاشدة تندّد بالوحشية الإسرائيليّة، على رغم تبنّي كبريات المؤسسات الإعلاميّة الغربية السرديّة الإسرائيلية، وحجبها عن المواطن الغربي المحتوى الإعلامي الذي يُظهر حقيقة البطش الإسرائيلي، منذ أكثر من أربعين يومًا دون انقطاع ؛ هذا التحوّل في الرأي العام الغربي لدى فئات عريضة من المجتمعات الغربيّة، ليس حدثًا عابرًا تنتهي مفاعيله بانتهاء هذه الجولة من الحرب على غزة، بل يؤسّس لمسار جديد في مستوى الوعي الجماعي للغرب، حيال القضية الفلسطينية.
اسرائيل لم تعد دولة ديمقراطية بالمنظار الغربي
“هناك معركتان تسيران بالتوازي، معركةُ الميدان في غزة، ومعركةُ الرأي العام العالمي، والأخيرة لا تقل أهميّة عن الأولى في مسارها ونتائجها حيال حاضر القضية الفلسطينية ومستقبلها” يقول رئيس قسم العلاقات العامة واتصال المؤسسات، في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، الدكتور حبيب رمّال في تعليقه لـ “لبنان 24” على مشهدية الشارع الغربي “المجازر الإسرائيلية في قسوتها وهمجيتها المفرطة، ساهمت في تشكيل رأي عام ضدّ الجرائم الإسرائيلية، وأثارت حالة من الغضب الشعبي في الشارعين الأوروبي والأميركي، ودفعت بالمجتمع الغربي لوضع الإسرائيليين في الكفّة نفسها التي وضع فيها “حماس” في بداية العملية. فلم تعد اسرائيل في نظر المواطن الغربي دولة ديمقراطية مدنيّة متحضّرة. هذا التحوّل حصل بفضل الإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي، بحيث وصلت الصور المروّعة من غزة عبر السوشيل ميديا، ومن خلال بعض الإعلام العربي، لاسيّما قناة الجزيرة، التي لعبت دورًا كبيرًا في إيصال الصورة إلى الرأي العام العالمي، فشاهد الغرب وقائع ثابتة عن الإجرام الإسرائيلي لا يمكن دحضها”.
معركة في شوارع فرنسا وعبارة “حماس” كادت تغلق مطعمًا
شهدت فرنسا، حيث أكبر جالية يهودية في أوروبا، تظاهرات حاشدة داعمة لفلسطين. يتحدث الدكتور رمال المقيم بين لبنان وفرنسا، عن انكفاء الطرف المؤيد لاسرائيل قليلا في الشارع الفرنسي على خلفية الحرب على غزة “ولكن دون أن يُحدث ذلك انقلابًا في رأي هذا الفريق. بالمقابل رأينا مواطنيين فرنسيين، لا دخل لهم بالشرق الأوسط وقضاياه، نزلوا إلى الشارع في تظاهرات حاشدة وهتفوا “فلسطين حرة”، ومارس هؤلاء ضغوطًا لإدانة ارتكابات الجيش الإسرائيلي. لذلك اضطر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أن يعدّل في خطابه ليقول “لا شرعية لاستهداف المستشفيات والمدنيين”، قبل أن يعود ويبرر ذلك للإسرائيليين”.
كل ذلك يحصل في بلد يُمنع فيه ذكر كلمة “حماس”، حيث يشير رمال إلى تحرّك عدد كبير من عناصر الشرطة الفرنسية إلى أحد المطاعم، طالبين من المدير أن يطفئ فوراً اللافتة المضيئة تحت طائلة الإغلاق الإداري، بسب خلل في الإضاءة، بموجبه بقي حرف C غير مرئي حين يحلّ الظلام، ليتحول بذلك اسم المطعم من Chamas Tacos (تاكو شماس) إلى Hamas Tacos
انقسام في الرأي العام الغربي
في البداية، حاولت حكومات البلدان الغربية منع التظاهرات المؤيدة لغزّة، يلفت رمال “فخرج هؤلاء ليلًا إلى الساحات والشوارع ونظّموا تجمعات كبيرة، فاستحال ضبطهم ومنعهم. ثم اتسعت المظاهرات على خلفية الصور الآتية من غزة، فتكّون رأي عام ضد القتل الإسرائيلي للمدنيين. علمًا أنّ هناك بالمقابل رأي عام ضدّ حماس ومنحاز لاسرائيل. ولا زالت معركة الرأي العام قائمة في شوارع المدن الفرنسية وغيرها من مدن العالم”.
الغربيون يبحثون عن أصل الصراع وصورة اسرائيل “الضحية” سقطت
في جولات الحروب السابقة التي خاضتها اسرائيل، ورغم ما شابها من مجازر ضد الإنسانية، لم تهتز صورتها كـ “ضحية لها الحق في الدفاع عن نفسها ووجودها” في الذهنيّة الغربية. اليوم نشهد بداية تبدّل في مكانة اسرائيل في الوجدان الغربي، فلم تعد التظاهرات المؤيدة لفلسطين تقتصر على العرب، بل شهدت هذه المرّة مشاركة فاعلة لقطاع واسع من الأوروبيين والكنديين والأميركيين بمن فيهم اليهود. وقام العديد من المشاهير في الغرب باستخدام حساباتهم على شبكات التواصل الإجتماعي وأمام ملايين المتابعين نددوا بالجرائم الإسرائيلية، وبدأت اسرائيل تخسر المعركة الإعلامية في شبكات الإعلام البديل.
بنظر رمال أحيت معركة “طوفان الأقصى” القضية الفلسطنية من جديد، بعدما انكفأت في السنوات السابقة، لافتًا إلى أنّ المجتمع الغربي الذي لم يكن يدرك حقيقة اسرائيل، راح يبحث عن أصل الصراع، وبات يدرك أن الإسرائيليين قدموا إلى فلسطين واحتلوا أرضًا، واستوطنوا فيها. “معركة الرأي العام على جانب كبير من الأهمية، وهي تصب لصالح الفلسطينيين، مقابل فشل العرب وخضوعهم. وفي حال حصل تعادل في الرأي العام يكون بمثابة إنجاز لصالح القضية الفلسطينية”.
أمام عجز المنظمات الأممية عن القيام بدورها التي أُنشئت لأجله في خفظ الأمن والسلم الدوليين، وفي ظل تنكّر اسرائيل للقانون الدولي، يبقى الرهان على الرأي العام الغربي، لما له من تأثير على سياسات الحكومات في تلك الدول، خصوصًا أنّ ما حصل من مظاهرات وشعارات وحملات مقاطعة أصابت سمعة دولة الاحتلال، وهدمت ما بنته الدعاية الإسرائيلية على مدى عقود، ولعلّها بداية جيدة في ميدان المعركة الإعلامية.