شعوب تلك الدول تعتبر الفلسطينيين شركاء نضال يواجهون محاولات الإبادة والحصار
عروبة الإخباري –
اندبندنت عربية –
في خضم الحرب على غزة بدا لافتاً تضامن بعض دول أميركا الجنوبية مع ما يعانيه هذا القطاع من دمار ومآس إنسانية لا مثيل لها. وهذا التضامن والتعاطف مع القضية الفلسطينية ليس وليد البارحة، وهو يأتي في سياق تاريخي يعود إلى عقود.
وبعدما بلغت الحرب الدائرة مستويات غير مسبوقة سارعت بوليفيا إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، فيما استدعت كل من تشيلي وكولومبيا سفيريهما من إسرائيل احتجاجاً.
وكانت وزارة الخارجية البوليفية، قد أعلنت أن الحكومة قررت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب، متهمة إسرائيل “بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في هجماتها على قطاع غزة”.
وكتب الرئيس البوليفي لويس آرسي على وسائل التواصل الاجتماعي، في الـ30 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي “نرفض جرائم الحرب التي ترتكب في غزة. وندعم المبادرات الدولية الرامية لضمان (دخول) المساعدات الإنسانية، بما يتوافق مع القانون الدولي”.
وقارن الرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بيترو في إحدى تغريداته على منصة “إكس”، الوضع في غزة بمعسكرات “أوشفيتز” (معسكر اعتقال وإبادة أدارته ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية)، مشبهاً الجيش الإسرائيلي بالنازيين، ونشر صوراً ومقاطع فيديو لفلسطينيين قتلوا في الهجمات الإسرائيلية خلال هذه الفترة، كما وأعلن أن بلاده ستقوم بفتح سفارة في مدينة رام الله الفلسطينية، عقب لقائه مع مسؤولين في السفارتين الإسرائيلية والفلسطينية في العاصمة بوغوتا.
وقال بيترو “لقد عبرت عن موقفي في شأن التوصل إلى مؤتمر دولي للسلام يمهد الطريق لقيام دولتين مستقلتين وحرتين”، مشدداً “على تضامني مع الأطفال الإسرائيليين والفلسطينيين الذين يجب أن يعيشوا في سلام. سنرسل طائرة تحمل مساعدات إنسانية إلى غزة، وكولومبيا ستفتتح سفارتها في رام الله بفلسطين”.
وفي فنزويلا دانت كاراكاس في بيان لها “الإبادة الجماعية المستمرة التي ترتكبها حكومة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، والتي تهدد السلام والأمن الدوليين، وتنتهك مبادئ وأسس ميثاق الأمم المتحدة…”.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد تظهر خروج الآلاف في العاصمة كاراكاس في تظاهرة ضخمة للتعبير عن تضامنهم مع قطاع غزة.
ووصف وزير الخارجية الفنزويلي إيفان خيل بينتو في وقت سابق أحداث قطاع غزة بأنها “عملية إبادة” للفلسطينيين من قبل إسرائيل، وأعربت حكومة كوبا عن “قلقها البالغ”، وأشارت في بيان لها إلى أن هذا التصعيد هو “نتيجة 75 عاماً من انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني وسياسة إسرائيل العدوانية والتوسعية…”.
أما في تشيلي التي تضم أكبر شتات فلسطيني خارج العالم العربي، أصدر الرئيس غابرييل بوريك بياناً دان فيه “حماس”، وشدد على أن هجمات (حماس) لا يمكن أن تبرر “الوحشية التي ترتكبها دولة إسرائيل في غزة”.
وفي البرازيل دان الرئيس لويز إيناسيو لولا دا سيلفا الهجمات على إسرائيل ولكنه دعا أيضاً المجتمع الدولي إلى الضغط من أجل “حل للصراع يضمن وجود دولة فلسطينية حيوية اقتصادياً تعيش بسلام مع إسرائيل داخل حدود آمنة للطرفين”.
وقال إن “ما يحدث الآن هو جنون من رئيس وزراء إسرائيل الذي يريد محو قطاع غزة”، مضيفاً “أن ترتكب حماس عملاً إرهابياً ضد إسرائيل لا يعني أن على إسرائيل أن تقتل ملايين الأبرياء”.
تحول الخطاب الرسمي
هي ليست المرة الأولى التي تنال فيها القضية الفلسطينية هذا التضامن، ففي يناير (كانون الثاني) 2009 واحتجاجاً على عملية “الرصاص المصبوب” الإسرائيلية، علقت فنزويلا وبوليفيا علاقاتهما الدبلوماسية مع إسرائيل، وتلتهما نيكاراغوا في فبراير (شباط) 2010 رداً على الهجوم على “أسطول الحرية” الذي توجه حينها إلى غزة محملاً بالمساعدات.
وبعد الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة في 2014، أطلق الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو حملة “أغيثوا فلسطين”. وأوقفت بوليفيا اتفاقاً مع إسرائيل للإعفاء من تأشيرة الدخول، واصفة إسرائيل بأنها “دولة إرهابية”، وفقاً لمؤسسة “الشبكة” للسياسات الفلسطينية، وهي مؤسسة فكرية فلسطينية مستقلة.
وترى الباحثة البرازيلية في المؤسسة “سيسيليا بايزا”، أن أميركا اللاتينية، باستثناء كوبا، كانت صديقة لإسرائيل لعقود، إذ بدأ الود تجاه المشروع الصهيوني عام 1947 حين أيد دبلوماسيون من المنطقة قرار الأمم المتحدة رقم 181 الداعي إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية. وجاء 13 صوتاً مؤيداً للقرار من أميركا الجنوبية من أصل 33 صوتاً. وعلى مدى العقدين التاليين استمرت الحكومات في تبني مواقف مؤيدة عموماً لإسرائيل.
وتتابع الباحثة بايزا أنه لم يحضر أي بلد من أميركا الجنوبية “مؤتمر باندونغ” المنعقد عام 1955، ولم يشارك أي منها باستثناء كوبا في تأسيس حركة عدم الانحياز عام 1961. وكان المؤتمر والحركة من المنابر المهمة للناشطين والمثقفين الفلسطينيين لتأكيد تضامنهم مع نضالات التحرر العالمية، والطعن في الرواية الصهيونية التي صورت إسرائيل كجزء من العالم الثالث. وقد استطاعت “منظمة التحرير الفلسطينية” في أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967 أن تعزز علاقتها بحركات أخرى مناهضة للاستعمار والإمبريالية.
وتتابع الباحثة أنه في منتصف عقد السبعينيات أصبحت العلاقات مع إسرائيل دافئة في العلن أكثر. حين أقامت الإدارات المحافظة والسلطوية باستثناء البرازيل، التي ضمت غالبية حكومات المنطقة في ذلك الوقت، علاقات وطيدة بإسرائيل من خلال المساعدات العسكرية والمعونات الإنمائية. وزودت إسرائيل الديكتاتوريات العسكرية بالسلاح والنقل العسكري والمعدات الاستخباراتية، والتدريب على مكافحة التمرد وحتى المشورة في العلاقات العامة. وبانتهاء الحرب الباردة أصبح الخطاب الرسمي في أميركا الجنوبية إزاء إسرائيل وفلسطين أكثر توازناً، وأخذت دول المنطقة تطبع العلاقات مع إسرائيل والفلسطينيين على حد سواء.
وجاءت “اتفاقات أوسلو” لتعزز هذه الدينامية، ولكن بالنسبة إلى الباحثة البرازيلية أن إسرائيل استفادت من هذه المعاملة المتساوية أكثر من الفلسطينيين في نهاية المطاف. ففي ديسمبر (كانون الأول) 1991، على سبيل المثال، صوتت بلدان أميركا الجنوبية جميعها، باستثناء كوبا، لإلغاء قرار الأمم المتحدة رقم 3379 الذي يعرف الصهيونية بأنها شكل من أشكال العنصرية. ويذكر أن البرازيل والمكسيك قد صوتتا لصالح القرار. وعام 1975 حصلت “منظمة التحرير الفلسطينية” على اعتراف بأنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني من عدد كبير من بلدان أميركا اللاتينية.
لكن التحول في السياسات تجاه فلسطين بدأ مع صعود حكومات أكثر يسارية في منتصف العقد الأول من الألفية. وأبدت الإدارات الأميركية الجنوبية بعد عام 2008 تضامناً غير مسبوق مع الشعب الفلسطيني.
وبلغ هذا التحول أوجه في موجة الاعتراف بدولة فلسطين في الفترة من 2008-2013، إذ باتت دول المنطقة جميعها، باستثناء المكسيك وبنما وكولومبيا، تعترف رسمياً بفلسطين كدولة.
وكان الرئيس البرازيلي دا سيلفا، ورئيس جمهورية الدومينيكان ليونيل فرنانديز، قاما بزيارة تاريخية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عامي 2010 و2011، على التوالي، وفتحت الأرجنتين وأوروغواي سفارات جديدة في رام الله. وإضافة إلى ذلك أصدرت البرازيل والأرجنتين وتشيلي وبيرو والإكوادور تصريحات قوية تدين الهجوم الإسرائيلي عام 2014 على غزة مستدعية سفراءها للتشاور. وفي عام 2015 رفضت حكومة الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف تعيين داني دايان سفيراً لإسرائيل، وهو قيادي سابق في “مجلس يشع” الذي يمثل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.
المد الوردي
في دراسة أعدها الباحثان الأرجنتينيان رونالدو مانك وبابلو بوزي وترجمها “المركز الديمقراطي العربي”، بعنوان “مقدمة في علاقات الصراع المتضاربة بين (إسرائيل – فلسطين) وأميركا اللاتينية”، كتبا ما اعتبراه “المد الوردي” في أميركا الجنوبية في وقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000. حين وجدت المقاومة الفلسطينية صدى في أميركا الجنوبية على المستويين الرسمي والشعبي.
و”المد الوردي” مصطلح استخدم لأول مرة لوصف موجة من الحكومات اليسارية التي سيطرت على السلطة في شتى أنحاء أميركا الجنوبية أوائل العقد الأول من القرن الـ21، في رفض جماعي للإجراءات الليبرالية المتقشفة إلا أن الحركة لم تصمد، وبعد نحو 10 سنوات أطاحت غالبية تلك الدول قاداتها اليساريين وانتخبت حكومات محافظة. إلا أن الوضع بدأ يتغير مجدداً، بعد انتصار الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا على الرئيس اليميني جايير بولسونارو، إذ عادت البرازيل عام 2022 لتعزيز “المد الوردي” من جديد في المنطقة للزعماء اليساريين المنتخبين، في كولومبيا والمكسيك والأرجنتين وتشيلي وبيرو وبوليفيا، في كتلة يسارية متنامية.
وانعكس هذا التحول الذي بدأ عام 2000 عندما اعترفت كل حكومات أميركا الجنوبية باستثناء حكومات المكسيك وكولومبيا وبنما، بدولة فلسطين رسمياً، فضلاً عن ذلك فقد عمدت تلك الدول إلى سلسلة من الإجراءات المباشرة التي تدعم حركة المقاطعة العالمية (BDS) ومعناها (المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والثقافية والرياضية الشاملة وسحب الاستثمارات من إسرائيل) في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية.
وفي عام 2018 أصبحت فالديفيا الواقعة جنوب تشيلي أول مدينة في أميركا الجنوبية تنضم إلى المقاطعة ضد إسرائيل بسبب سياسات الفصل العنصري، والاحتلال العسكري للضفة الغربية، والحصار غير القانوني لقطاع غزة.
وبعد ذلك بفترة وجيزة صوت الكونغرس في تشيلي بغالبية ساحقة لمصلحة حظر المنتجات من المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، التي بنيت على أرض فلسطينية مسروقة. وفي يونيو (حزيران) من العام ذاته، رفض فريق كرة القدم الأرجنتيني بقيادة ليونيل ميسي خوض مباراة ودية كانت مقررة في القدس، ووصفت منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام” هذه اللحظة بأنها “لحظة فاصلة”، في حين قال وزير الدفاع الإسرائيلي حينها أفيغدور ليبرمان إنها كانت بمثابة فوز “للمحرضين الكارهين لإسرائيل”. ومن الناحية الثقافية ألغى الموسيقار البرازيلي جيلبرتو جيل في مايو (أيار) حفلته بعد نقل مقر السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وفي أغسطس (آب) تظاهر ناشطون عرب وبرازيليون أمام قاعة ساو باولو للحفلات الموسيقية احتجاجاً على أداء أوركسترا “سيمفونية القدس”.
تأثير وجود الجاليات العربية الكبيرة
تشير الباحثة المصرية في التاريخ الحديث والمعاصر نجلاء مكاوي، في دراسة لها بعنوان “فلسطين الحاضرة في أميركا اللاتينية” أن القارة الجنوبية تعد مهجراً لكثير من العرب، وبخاصة ممن نزح من بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين) في النصف الأول من القرن الـ20، وهؤلاء استقروا واندمجوا في المجتمعات اللاتينية، ومع الوقت بات لهم حضور قوي على المستوى السياسي. وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فمنهم من تقلد مناصب مهمة في دول كثيرة (السلفادور وهندوراس وبيرو والدومينيكان وتشيلي) كعمد للمدن ورؤساء بلديات ووزراء ورؤساء حكومات، وصولاً إلى منصب رئيس الجمهورية، وذلك بدءاً من الأربعينيات وحتى اليوم، ويقدر عدد من هم من أصل فلسطيني في أميركا الجنوبية بما يتجاوز 700 ألف، وهو أكبر تجمع للفلسطينيين خارج العالم العربي، ويتركز في تشيلي وهندوراس، لكن دور هؤلاء في التعبئة من أجل القضية الفلسطينية متفاوت، مكاناً وزماناً، أي إنه اختلف باختلاف المراحل الزمنية والدول، فقد بدأ التحرك بجمع الأموال والدعم اللوجيستي، ثم بتشكيل بعض الكيانات الجامعة للفلسطينيين في الشتات. ومع العقدين الأخيرين من القرن الـ20، وبعد توقيع “اتفاق أوسلو” وتزايد النشاط الصهيوني والترويج لما سمي بعملية السلام، وفقاً للباحثة، انحسرت الحركة ثم عادت لتنشط مع بداية الألفية الثالثة، سواء على مستوى تأسيس الكيانات والاتحادات الفلسطينية وانضمام اللاتينيين إليها، أو التنسيق وتكثيف النشاط بالتعاون مع تنظيمات ومؤسسات أهلية ومهنية، وجميعها يستهدف دعم القضية على مستويات عدة.
وتلفت الباحثة المصرية أن وجود الجاليات العربية ليس العامل الوحيد المحرك لذلك النشاط، فثمة ما يدفع الشعوب الجنوبية إلى الإيمان بعدالة القضية، ورفع رايتها والتضامن معها عبر صور متنوعة.
ويرى الأميركيون اللاتينيون أن ما يعانيه الشعب الفلسطيني لا يختلف عما عانوه من استعمار وإبادة واستغلال وقمع. وعملياً قامت إسرائيل بأدوار قذرة كذراع للولايات المتحدة وداعم لحلفائها من الديكتاتوريات العسكرية في أميركا الجنوبية في السبعينيات والثمانينيات، في مواجهة القوى والحركات المقاومة لها، وذلك من طريق تدريب وتسليح فرق القتل والميليشيات المرتزقة. ولا يزال ضلوع إسرائيل قائماً حتى اليوم في تمويل ودعم عصابات وميليشيات في دول مثل المكسيك وكولومبيا وهندوراس والدومينيكان. وتضيف الباحثة المصرية أنه لدى اللاتينيين ما يدعوهم لاعتبار الفلسطينيين شركاء نضال، فهم شعب يواجه اغتصاب الأرض ومحاولات الإبادة والحصار والإكراه وعنجهية القوة وإرهابها، وعندما يقاوم يوصف نضاله بالإرهاب، وهو في كل هذا يحاذيهم على الرصيف ذاته.