عروبة الإخباري –
العالم يبدأ من الحرف. الإنسان يبدأ من حرف.
الكلام يبدأ من الحرف. كلُّ شيء متحرِّكٌ وساكنٌ حرف،
فبالحروف تتسمّى الكائناتُ والكواكبُ والأشياء.
بحرْفَين، فقط، يولد الوجود والخلق من عدم:
“إنما أمرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له كُن فيكون”
لوحة للفنان سليمان منصور
الــــفاء:
الفاتحة. بسم الله الرحمن الرحيم. أمُّ الكتاب. مفتاحُ صَرح القرآن. الحمد. الواقية. الكافية. كلماتُه خمس وعشرون. حروفُها مائة وثلاثةَ عشر حرفًا. الحمد لله رب العالمين. قال رسول الله (ص): “ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أمِّ القرآن، وهي السّبْع المثاني”.
فلسطين شذَى وشدْوُ الأغاني، وحكايةُ السُّمار، مُرّةٌ، مريرةُ المصير، وكم عذبٌ مذاقُها على اللسان.
الفُرقان: ” هُدىً للناس وبيِّناتٌ من الهُدَى والفُرقان”. كلُّ ما فرّقَ بين الحقّ والباطل. ” تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون نذيرًا”. الفرقانُ البرهانُ والحُجّة. النورُ والهدايةُ والتوفيق: “إن تتّقوا الله يجعلْ لكم فرقانًا”. هو اسمُ آخرُ لفلسطين.
الفردوس: مَجْمَعُ البساتين. مكانٌ كثيرُ الكروم. خُضرةُ الأعشاب. الوادي الخصيب. السّماءُ العُلى. اسمُ جنةِ ِآدمَ الأولى. جنةٌ من جِنان الآخرة. مسكنُ الأبرار والقدّيسين الصالحين بعد الموت: ” الذين يرثون الفردوسَ هم فيها خالدون”؛ ” كانت لهم جناتُ الفِردوس نُزُلاً”. هي يقينًا، وحتمًا، وعدًا وعهدًا؛ فلسطين.
الفصاحة. الفروسية. الفِداء. الفُتوّة. الفخر. فَناؤنا اليوم. فجرُنا غدًا. فلسطين، فلسطين، فلسطين ردِّدوها معي بعد كلّ فاتحة، واهمِسوا باسمها في أذن الوليد غِبَّ الوضع: فلسطين.
الـــــلاّم:
“ألف لام ميم ذلك الكتابُ لا ريب فيه هُدىً للمتقين”. واللاّم، لا، جهيرةٌ، حادّةٌ، وشاهقة. فوق رأس المحتلّ صاعقة. لا لاغتصاب الأرض، لاجتثاث الفلسطيني من أرضه، طردِه من سماه، خنقه في هواه، وفي القلوب قرونٌ من هوى وشغف، كم حبٍّ ونجمٍ وليلٍ مع وترٍ وقمرٍ ائتلف. لا لكل ما يتهدّد الأرومة العربية، تُطل من عيني وتغنَج في ضحكة فتاة نديّة. لا الصّائتة، وهي الضّاربة، وصادية، في فم كل طفل عربي، من المهد إلى المجد، هل تعرفون في الأرض شعبًا يخرج من الرّحم شهيدًا، ويوارَى الثرى مذ أول صرخة بسُرّته وليدًا، شعبًا لا يستسلم وُجد ويفني عنيدًا لا عبيدا. يرمي قذيفةً مع صرخة عارمة في وجه المحتل باسم فلسطين، ويمشي في البيّارة يغنّي، لا بدّ تعود أرضي عاجلاً أو بتأنّي؛ فلتكن أبجديتي حيّة حتى الأبدية.
السِّيـــــن:
السماءُ مفتوحةٌ على شبّاك الله. ضراعةٌ، أم سؤال إلى متى؟ أم “سنُريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم الحقُّ أوَلم يكفِك ربُّك أنّه على كلِّ شيءٍ شهيد”. سيرةُ أبطال كانت فلسطين. أمس واليوم ولغدٍ باقية. سيفٌ بتّارٌ في زمن أمّة غافية. دمُ السّلالة ظمِئٌ لدمِه، “سنرجع مهما يمرّ الزمان/ وتنأى المسافات ما بيننا”.
الطـّــــاء:
أوّلِي طوفان. آخِري لا أقبل بغير الطّعن في العِدا، خرجتْ من حنجرة المتنبي ذات عهد ذهبي مضى: “لكل امرئٍ من دهره ما تعَوّدا” يُحييها بعد أن تلاشت تناساها المماليك صارت سُدى. وسطي طريقٌ طالت، ولتطُل، وليلٌ لو بات عندي قمري الفلسطيني وطني معي لا بدّ لي أن أسهره. لا طاعة لفلسطين، لأحدٍ، لبلد، لا معنى، لا كرامة لوالدٍ وما ولد وهي في الأسر. طوبى لمن أيقن بأنّي دربُه، القمرُ المعشوق في أريحا ضوؤُه، وامتدادًا إلى طولكرم وانتشارًا إلى طبريّا. أعرف هذه الأرضَ، ونساءها ورجالها. سبعون سنة مذ هُجِّروا، اغتُصبت أرضُهم واقتُلعوا من حقولهم “والتين والزيتون وطور سنين” كلّ طفل يولد فيها لثغتُه الأولى: فلسطين.
الــــياء:
السلام عليكم. السلام عليك فلسطين. عليك أبو عمّار في العلياء. عليك كنفاني. عليكم باقة الأصدقاء العِتاق: محمود درويش، محمود شقير، يحي يخلف، عبد السلام العطّاري، عاطف أبو سيف، زيّاد خداش، الراحلون منكم والصّامدون منكم في جبهة الوطن وفي وجه رصاص القتلة، وبكوفية العبارة. الغائبون والحاضرون، لا بدّ منكم، عوِّلوا عليكم، بدونكم يرحل الفداء، يُهدّر القصُّ، يفنَى المعنى، يَتحشرَج النشيد، ويبحَّ صوتُ المغنّي. أنتم من يُحيي الآن أصواتنا صدِئت، وأيديولوجيات تلفت. يا لها هذه الياء، ليست اليوم إلا اليُتمُ والعويل لكن الويل، أيضاً، للمعتدي. وكانت أمسِ وعدًا باليُمن واليقين، فكيف نقبل أن نُمسي أمةَ الهوان والأنين، كيف؟!
الياءُ كانت أولّ حرف للنداء. النداءُ بأجمل الأسماء. الشمسُ والقمرُ لأبّهتها يسجدان. يكفي أن تتذكروا بأنّهم هنا النبوةُ في أرض الأنبياء. شعبُ كنعان يضيء. يصطفُّ موكبًا للنجوم بين الإسراء والمعراج. ثم يبقى حشدًا، فيالق تُلعلع هاماتُها بنادق. حفظتُ الأسماءَ في حيفا هي عنوان كنعان، ويافا عهدُها الصادق. يمينَ الله إما يُفكّ أسرُ هذي الأرض وإما نحن أمةٌ هباء.
النـُّــــون:
القسم بـ”نون” إشارةٌ إلى قُدسية الأبجدية. ” والقلمِ وما يَسطُرون”، وفلسطين كما كانت مولد الأديان هي مهدُ الأبجدية، نارٌ ونورٌ في الدّيجور. كم مستوطناتٍ تطوّقُها بالقيد والنار ومليون ِسور؟ كم ثكلى لفقيد، ولحبٍّ طريفٍ وتليد، يزِين معصمَها، الموتُ سَمادُها، والأرضُ غرثَى فيها للدماء، وصبيّةٌ عطشى لا تريد من الحياة أكثر من شَربة ماء، لكنهم غصبوهاـ يا إلهي، تمّ هذا والسماء رقيب. اليوم لا نسيان ولا نحيب. قصف قصفٌ قصفٌ ألفٌ ثم آلافٌ وشامخٌ هو الأنف. فلسطين قالوا كانت انسُوها، سنمحُوها، ها، ها، لن يبقى منكم أحدٌ بعدها، هي جسدٌ الأرض وثغرُها، سنغزوها، ها ها، سنعود نعمّرها، يُحييها الخالقُ من رميمٍ ثم نتلوها.
” ما أنتَ بنعمة ربك بمجنون”. أحبَّها. افدِها. خُذها ملءَ الحضن. بشغف القلب وسواد العينين. “فإنّ لك أجرًا غير ممنون”. مُسجاةً جدثًا تظنون، مكلومةً أراها الآن وتبقى شامخة. “والقلم وما يسطرون”. لقد تطاول اللّيل علينا دمّون/ دمّون إنّا معشر يمانون/ وإنّا لـ[ فلسطين] محبّون”، ” فستُبصِر ما لا يبصرون”.