عروبة الإخباري –
رغم سقوط أكثر من ٦ آلاف مدني فلسطيني وما يزيد على ١٩ ألف جريح، وتدمير البنية التحتية لقطاع غزة وعشرات آلاف المنازل والمرافق العامة، تستمر المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة، دون وجود أي قوة تردع الاحتلال عن مواصلة مجازره بحق الفلسطينيين. وهي التي وصفها البعض بالإبادة الجماعية، والبعض الآخر بالتطهير العرقي، وخبراء القانون اعتبروها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فما يقترفه الاحتلال في غزة، بالإضافة إلى أنه يعكس جميع تلك التوصيفات، يفضح بجلاء نية هذا الاحتلال ومخططاته وسياساته تجاه الشعب الفلسطيني. تلك المخططات والسياسات التي وضعتها إسرائيل، لم تتوقف يوماً طوال سنوات الاحتلال الماضية منذ العام ١٩٦٧، وما هي الا امتداد لما بدأته الحركة الصهيونية منذ مطلع القرن الماضي بحق الشعب الفلسطيني. وعكست كلمة أنطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة أول من أمس خلال جلسة مجلس الأمن الخاصة بغزة، واقع الاحتلال الذي يعيشه الفلسطينيون، اذ اعتبر أن هجوم الفصائل الفلسطينية على مواقع للاحتلال لم يحدث من فراغ، في إشارة إلى استمرار الاحتلال وممارساته المستمرة ضد شعب محتل.
لم يصدر قرار من مجلس الأمن، ينص على وقف قصف المدنيين في غزة، ووقف سيل الدماء المتدفق بعنف في القطاع المكلوم، وقد لا يصدر هذا المجلس مثل هذا القرار حتى وإن ابيدت غزة عن بكرة أبيها. فقد عكست كلمات مندوبي الدول في مجلس الأمن، في جلسته التي عقدت في وقت متأخر من يوم الثلاثاء وامتدت لصباح يوم أمس، وتعلقت بتطورات الهجوم على غزة، حالة الانقسام السياسي العميق حول الموقف من القضية الفلسطينية، فبينما تعتبر الدول العربية والاسلامية ودول العالم الرافضة لهجوم إسرائيل قضية فلسطين حالة احتلال واضحة الأركان والمعالم، وهو التوجه الثابت قانونياً وتؤكده قرارات الشرعية الدولية ومجلس الأمن، يتنكر الاحتلال لهذه الحقيقة، وتدعمه الولايات المتحدة والدول الغربية على رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وكل الدول التي تدور في فلكها. هذا الإنكار الإسرائيلي الصارخ للحقائق والوقائع سمح لها بالدعوة لطرد الأمين العام للأمم المتحدة من منصبه، عقاباً له لما جاء في كلمته سابقة الذكر، والتهديد بمعاقبة الأمم المتحدة بشكل كامل.
إن تلك الكلمات التي ضجت بها أمس قاعة مجلس الأمن عكست حقيقة كانت تلك الدول الغربية تخفيها، وتواريها طوال السنوات الماضية، بادعاءات عامة حول الديمقراطية وحقوق الانسان وحل الدولتين، بينما تدعم عملياً استدامة احتلال إسرائيل لأرض الفلسطينيين. ويقف الغرب متفرجاً، الا من بعض التصريحات الجوفاء المنتقدة بخجل، لممارسات الاحتلال الوحشية وغير القانونية والتي تغير تدريجياً من واقع الأرض الفلسطينية، وداعماً بالمال والتهديد بقطعه لضمان استمرار الوضع الفلسطيني المشوه في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويدعم الغرب بقوة التفوق العسكري والاستخباري الاسرائيلي على حساب جميع دول المنطقة. وتتبنى الدول الغربية الكبرى بحماس تطبيع العلاقات بين الاحتلال والدول العربية، وتقدم اغراءات عسكرية واقتصادية للعرب، على أمل أن يؤثر ذلك تدريجياً على مواقف الدول العربية من القضية الفلسطيني. في هذه الكلمات، ركز مندوبو الدول الغربية على حق القوة النووية القائمة بالاحتلال بالدفاع عن نفسها، ودعم مواصلة قصف وقتل المدنيين العزل تحت أنقاض منازلهم. فالمشكلة عند تلك الدول بدأت بهجوم ٧ أكتوبر، والقضية عندهم الآن تتوقف عند حد قضية اخراج المحتجزين والأسرى الاسرائيليين، في تجاهل تام لجرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين لعقود، وحصار غزة لسنوات، وترك آلاف المعتقلين السياسيين والأسرى الفلسطينيين في غياهب السجون لسنوات طوال.
طالما جرى انتقاد الأمم المتحدة ومجلسها الأعلى لعدم قدرتها على تحقيق العدالة بشكل عام، وفي الحالة الفلسطينية بشكل صارخ. فمجلس الأمن المكلف بشكل رئيس بحفظ الأمن والسلم الدوليين، منح أعضاءه الخمسة الدائمين حق الفيتو، فسيّس ذلك الهدف منذ البداية، ولم ينجح في تحقيق فعال لردع المعتدي عموماً، الا في الحالات التي اتفقت عليها تلك الدول الخمس، وفي الحالة الفلسطينية لم ينجح المجلس في ردع المحتل ولو لمرة واحدة. وتعكس كلمات الدول العربية في مجلس الأمن أمس في العموم الواقع القانوني للقضية الفلسطينية، وليس مجرد شعارات وطنية. إن قضية فلسطين هي قضية أرض محتلة، وشعب يخضع للاحتلال، عندما نتحدث عن الواقع القانوني. وأكدت محكمة العدل الدولية ذلك الوضع في رأيها الاستشاري فيما يتعلق بجدار الفصل العنصري الذي أقامه الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما أكدت على ذلك المحكمة الجنائية الدولية عندما قررت فتح تحقيق في جرائم حرب محتملة وقعت في فلسطين، ووصفتها بـ «الأرض الفلسطينية المحتلة». وأكدت العديد من قرارات مجلس الأمن على ذلك، ووصفت إسرائيل بدولة الاحتلال، وأشارت إلى انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأرض الفلسطينية المحتلة. ويعتبر القانون الدولي، الذي هو صناعة غربية في الأساس، أن نضال الشعوب المحتلة لمحتلها مشروع، فمنحت قواعده الشعوب حق تقرير المصير، وأعطت لمناضلي الحرية حق الحماية. ويؤكد إعلان جنيف حول الإرهاب، على «أن الشعوب التي تقاتل ضد الهيمنة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي وضد النظم العنصرية، وفي ممارسة حقهم في تقرير المصير، لديهم الحق في النضال من أجل تحقيق أهدافهم وفقاً للقانون الدولي الإنساني». كما أن حماية المدنيين أثناء الحروب والعمليات العسكرية، والحفاظ على أرواحهم تنص عليه قواعد قانونية آمرة، ورهن تلك الحماية من قبل الدول الغربية اليوم في الهجوم الإسرائيلي على غزة بشروط، يعد جريمة حرب تشارك فيها تلك الدول الغربية بشكل صريح، خصوصاً وأن من يقترف تلك الجرائم بحق المدنيين، هي ذاتها القوة القائمة بالاحتلال.
إن الفجوة بين رؤية الشعوب والدول العديدة المحبة للعدل والسلام للقضية الفلسطينية وبين الرؤية الغربية الاستعمارية لهذه القضية العادلة، التي لم تتمكن الولايات المتحدة ودول غربية رئيسة من إخفائها خلال الهجوم الإسرائيلي الحالي على غزة، يفرض على الدول العربية والإسلامية والصديقة الاتحاد لتشكيل جبهة متماسكة قوية لردع محاولات تصفية القضية الفلسطينية، لأن نجاح المعسكر الغربي اليوم في دعم إسرائيل، يعني أن هناك دولاً ومناطق أخرى ستواجه نفس الجبهة في حالة تصادمها مع هذا الكيان. وأخيراً، لا بد لإسرائيل وحلفائها أن يدركوا بأن حل القضية الفلسطينية عبر الأدوات العسكرية والقمعية، قد جرب عبر قرن من الزمان، ومُني بفشل ذريع، والحل الوحيد الموجود أمامهم اليوم هو حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة، والممثلة في الحرية والاستقلال، وإقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين.