عروبة الإخباري –
جريدة الخليج –
حينما يُصبح القتل قريباً على مرمى إشاعة، أو كذبة يُروّج لها في وسائل الإعلام العالمية.. وحينما تصبح أزرار الهاتف متناغمة مع البنادق والأسلحة الذكية، وتطبيقات التزييف العميق، تضيع الحقيقة وتختلط صور العدو بالصديق.. هو زمن التكنولوجيا التي سهّلت وصول الأخبار، وقربت البعيد، وقبل أن نَفرح بها امتدت أيدي العابثين لتشوّه الحقائق وتنافس البنادق بالتحريض والقتل.. ولكن هل حرب الإعلام صناعة هذا العصر؟ لا طبعاً، هي تطورت مع تطور عصرنا وتفننت في غسل الأدمغة والتحريض وقتل المعنويات فقط. وهكذا أصبحت من أهمّ أسلحة الحروب، وتُنافسها في التدمير النفسي، ولكي نفهمها أكثر نعود إلى نشأتها الأولى.
الحرب العالمية الثانية.. وهنا نعترف بأن مؤسسها الأول هو (وزير الدعاية) في عهد هتلر (جوزيف غوبلز)، الذي وضع أول الأسس في نظرية الحروب الإعلامية، وصاغ أول أسلحتها التي تفتك بالعقل، وتسلب إرادة المتلقي، لتدور كما يشاء قائدها، يومها اختار (غوبلز) توزيع جهاز الراديو مجاناً لكونه الوسيلة الإعلامية الوحيدة المتاحة في ذلك الوقت، والقادرة على نقل الرسالة التي يريدها، وحرصاً منه على إيصالها، منع أي تردد لأي موجة سوى الموجات التي كان يبثها راديو النازية، كي لا يبقى أمام الناس سوى مصدر واحد للأخبار. وهذا ما سمى آنذاك بالاستعباد، أو الاستعمار العقلي.
لكن، ورغم براعته في بث الأكاذيب والدعاية، فشلت الحرب ودارت الدائرة عليه.. وبقيت نظرياته تتطور كما تطور جهاز الراديو.. ووجدت من يجيد استعمالها في زمن التلفزيون مع الصوت والصورة، حيث كان التأثير أكبر، ومع زمن الفضائيات اقتربت المسافات وشهدنا أعجوبة البث المباشر التي تنقل الخبر من آخر الدنيا إلى هاتفك. هنا استعدّت آلة الحرب لاستغلال هذه الوسائل، نظراً لأهميتها في تكوين الرأي العام، ولأهمية هذا التأثير في نتائج الحروب.. وأصبح الاهتمام بسلاح الإعلام ضرورة في كل حرب.
بدأ الوعي بأهمية هذا السلاح مع بداية وكالات الأنباء، وبدأت الدول الكبرى تسعى للسيطرة عليها. فكانت البداية الأولى مع وكالة (هافاس) في باريس، التي تحول اسمها لاحقا إلى (فرانس برس). ومنذ بدايتها كانت المصدر الوحيد في توزيع الأنباء على الصحف والوسائل الإعلامية، المسموعة والمرئية والمطبوعة. وحتى اليوم، ما زالت الدول الكبرى تسيطر على توزيع الأنباء من ثلاث بلدان عالمية، هي: لندن، نيويورك، وباريس. وتلتها فيما بعد، روسيا، وألمانيا التي تراجعت بعد الحرب العالمية الثانية.
هذه الوكالات تلعب الدور الأهم في صياغة الأخبار ونشرها، ولذلك نجدها تتماشى في توجهاتها مع توجه الحكومات التي تُموّلها. وطبعاً خلال الحروب تشتعل صفحاتها بالمتابعين، وأكثر المتابعين هم المؤسسات الإعلامية التي تتلقى الأنباء لتعيد نشرها، من خلال اشتراكات خاصة تؤهلها للحصول على الأخبار قبل غيرها. لكن تبقى هناك حقيقة واضحة بدأنا نلمسها خاصة في عصر الإنترنت والفضاء المفتوح.. هذه الحقيقة تقول (أنْ تصلك الأخبار أولاً لا يعني أنها الأكثر صدقاً).. فالتجربة التي عرفها العالم خلال الحرب الأمريكية على فيتنام أثبتت أن ما كانت تتناقله هذه الوكالات من أنباء كانت تبرر الحرب، وتظهر أمريكا في موقع المدافع عن الديمقراطية ضد الشيوعية، وكان ذلك كاذباً ومجرد تضليل.
واليوم، نحن أمام وسائل إعلام جديدة وجدت من يتلاعب بها لتغيّر أنظمة كاملة من دون أن تُطلق رصاصة واحدة.. وهي منصات التواصل الاجتماعي، هذه هي الوسائل التي تتربع اليوم على عرش الأسلحة الإعلامية الأكثر فتكاً بمشاعر الناس، والأكثر تأثيراً في سلوكهم. وهذا ما يفسر القيمة السوقية العالية التي باتت منصات التواصل الاجتماعي تملكها. هنا يمكن لصاحبها أن يشعل ثورة، وأن يقمع ثورة، من خلال التحّكم في انتشار المنشورات، وتعطيل الصفحات التي لا تتماشى مع ميول مالكي هذه المنصات. وكون تلك المنصات اليوم هي المتنفس الوحيد للشعوب للتعبير عن مشاعرها، يُصبح القمع هنا أكثر وجعاً.. ولعل التجربة الأخيرة التي نمرّ بها اليوم حيث أعلنت منصات مثل «فيسبوك»، و«إنستغرام» و«تيك توك»، رفضها لأي منشور يحوي صور تسمّيها حساسة، رغم كونها لا تمانع بنشر صور إباحية تسميها حرية، (التسميات هنا تخضع لتوجهاتهم السياسية)، لعل هذه التجربة، والإسراع بقمع وطمس الحقائق، أكبر برهان على خوفهم منها، ومن صدقها. فحينما تصبح الحروب إعلامية يعودون إلى نظرية (غوبلز) التي حاربتهم يوماً، وبقيت تعيش فيهم.
.. تغيرت الوسائل وتطورت لكن ذهنية الاستبعاد والاستعباد لم تتغيّر.
* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية