عروبة الإخباري –
الدستور – معاذ الدهيسات –
في المنظومة التي يديرها الأسوياء يتم فرض القيم على المجتمعات وفق معايير أخلاقية يحكمها القانون الذي يحفظ كرامة وحقوق الناس، في مقابل ذلك تسعى الجماعات التي يحكمها الشر والكراهية إلى فرض قيمها بالخداع والمكر والدم.
ولعل مشروع (مارشال) هو اعظم مثال على الشطر الأول من المعادلة السابقة، وتعود حكاية المشروع التاريخي الى العام 1947، فبعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها عام 1945 استيقظت أوروبا على ما آلت إليه القارة بعد كل هذه النار التي تم صبها خلال الحرب، فقد أسفر المشهد عن مجاعات وملايين اللاجئين الذين باتوا بلا مأوى ومدن تم تسويتها بالأرض وبنى تحتية مدمرة، عدا عن موجات البرد القارس التي قتلت الآلاف وأدت إلى انتشار الأوبئة والأمراض.
كان هنالك شخص يراقب ما يحصل بدقة ويعي أن هذه البيئة باتت مرتعاً خصباً لتمدد النظام الشيوعي المنافس، لقد كان هذا الرجل (جورج كاتليت مارشال) رئيس أركان الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) الذي وصل لرؤية أن ما يدور في أوروبا لا يمكن علاجه من خلال معالجات بسيطة مثل (مبدأ ترومان) الداعي لدعم دول محددة مثل تركيا واليونان لمواجهة الضغط السوفياتي، فوضع خطة اقتصادية لإعادة إعمار أوروبا بتقديم معونات للدول الأوروبية المشتركة في البرنامج وعددها 18 دولة لتنفيذ برامج اقتصادية وصناعية كبرى للنهوض باقتصاديات تلك الدول خلال الفترة من عام 1948 – 1951 وبمبلغ يقدر بثلاثة عشر مليار في حينها وهو ما يزيد عن المائتي مليار بوقتنا الحالي والنتيجة كانت نمو اقتصادي بمعدل من 15 – 25 بالمائة للدول المنخرطة بالمشروع وبالتالي استقرار إنعكس على كل دول العالم حتى يومنا هذا،
وما يعنينا من هذه التجربة هو كيف تم فرض القيم في منظومة يديرها الاسوياء، فجميعنا يعي كيف أعيد تشكيل العالم من منظور اقتصاد سياسي بعد هذا المشروع العبقري.
وعلى النقيض من ذلك وعندما يحكم المنظومة عقلية الشر فسيكون فرض القيم بأبشع الوسائل فمثلاً في أفريقيا تم تصنيف الاغتصاب ضمن اسلحة الحرب، فلا تتوانى الجيوش المتناحرة عن القيام باغتصاب كامل نساء المدينة التي يتم اجتياحها ضمن فكرة احلال نسل المنتصر مكان السلالة المنكسرة، وفي حالات يستخدم الاغتصاب كسلاح إذلال، فالقوة تنزع لفرض سلطتها عبر كسر إرادة المقابل.
وهذا ما يقودنا لمفهوم الحرب والذي يعني ببساطة: فرض الإرادة، وإذا كان فرض الإرادة تاريخياً يتم بالقوة، فإننا اليوم نرى اشكال متنوعة من الآليات التي فيها فعل ذلك، فمثلا تملك بعض الدول اليوم قواعد اعلامية بقوة تضليل تدميرية يرفدها جيوش الكترونية مختصة بتدمير الذاكرة الإنسانية لصالح أيديولوجيات إرهابية تمهيداً لفرض إرادة من يدير هذه المافيات الناعمة وبدون إراقة دماء.
فيما يصعد وجه آخر لمحاولات قوى الشر الهيمنة في المنطقة وفرض أرادتها وأجنداتها من خلال المخدرات، وهي آلية قديمة استخدمتها بريطانيا في حرب الأفيون الشهيرة واليوم يتم استعادة ذات النموذج في الأقليم من قبل الدول ذات المشاريع التوسعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فعلى سبيل المثال ومن خلال متابعة أرقام قضايا المخدرات في الأردن نجد أن أكثر من خمسين بالمائة من قضايا المخدرات في المملكة تستهدف فئة الشباب من عمر 18 – 24 عاما وهذا يعني أن من يدير حرب الأفيون ضد الأردن يستهدف رأس المال البشري للدولة، ويعى بوعي أنه بتدمير هذه الفئة فإنه سيهدم مستقبل الدولة.
اليوم نحن أمام منظومات إقليمية تحكمها أيديولوجيات الشر والإرهاب تسعى بكل جهدها لبسط هيمنتها من خلال دعم ميليشيات طائفية وإغراق الإقليم بالسلاح وبالمخدرات لزعزعة السلم الاجتماعي وتعزيز الانفلات الأمني بالمنطقة.
إنها وصفة متكاملة لتدمير المحيط لإنجاز مخططات توسعية لصالح أنظمة الشر التي تدير هذه الادوات، أدوات لا يمكن ان تنجز هذا العمل الكبير بدون دعم دول وأجهزة وبدون تسهيلات جغرافية واقتصادية وبدون واجهات وشبكات عسكرية ومدنية تتمتع بالحماية على مستوى الدولة الحاضنة لهذا النشاط الجرمي القذر.
وهو ما يؤكده تقرير الأمم المتحدة للجريمة والمخدرات إلى أن ساحة سوريا باتت مركزاً للمخدرات وبخاصة مادة الحشيش القادمة من إيران عبر العراق إلى سوريا ويؤكد التقرير أن سوريا ولبنان تشكلان اليوم مركزاً إقليمياً لتصنيع وتوزيع الحبوب المخدرة.
هذا التوسع بالنشاط الجرمي شهد تطوراً ملفتاً في العمل على الحدود الأردنية الشمالية بشكل متسارع وممنهج بعد تخلي روسيا عن دورها في اتفاقية خفض التصعيد الثلاثية الموقعة مع الأردن والولايات المتحدة 2017، والتي تم استبدالها بما عرف لاحقاً باتفاقية درعا 2018 التي أتاحت للنظام السوري دخول قواته إلى كامل المدن والقرى والبلدات في المحافظة برعاية روسية، بعد إجراء عمليات مصالحة أو «تسوية أمنية». ولكن بعد دخول روسيا في حرب واسعة مع أوكرانيا تراجع نفوذ موسكو ودورها في منطقة جنوب سوريا ورمى الكرملين كل ثقله في معركة كسر العظم المستعرة على حدوده الجنوبية الغربية، وهو ما ترك فراغ جيوسياسيا كبيرا استغلته قوى اقليمية للصعود والتمدد على حساب انسحاب روسيا.
وهنا يمكن رصد تكرار ذات الاستراتيجية المتبعة في أكثر من دولة من قبل ذات المنظومة التي دفعت بميليشياتها في خطة بسط نفوذها المكررة والقائمة على عدة محاور، وملخص محاور هذه الاستراتيجية التي شهدناها من قبل في العراق ولبنان واليمن يتمثل في البداية بتصعيد تنظيمات متطرفة، يتلوها افتعال صراعات بين المجتمعات العشائرية في مناطق الاستهداف، يتبع هذه الخطوة عملية جر المدن والقرى لصدامات دموية تحمل لغة الثورة والدفاع عن الكرامة بغلاف ديني، وتعزز بتدفقات بشرية بأجندات طائفية وفي خط موازي تزدهر سوق المخدرات والسلاح في المنطقة المستهدفة، وهكذا يتم انتاج القنابل الجيوسياسية تمهيدا لابتلاع الجغرافيا والتوسع باتجاه حدود جديدة!.
فعلى سبيل المثال يمكن رصد ظهور ما يعرف بـ (ولاية حوران) التابعة لتنظيم داعش الإرهابي في الجنوب السوري، ويمكن ملاحظة كيف يصعد نجم التنظيم الإرهابي بهدوء، وهكذا ومنذ بداية عام 2022، يمكن ملاحظة كيف يتم تعزيز تواجد داعش بشكل منهجي في المناطق المحيطة بدرعا وبادية السويداء والبادية السورية وبمتابعة نشاط هذه العصابة الجرمية نلاحظ أنهم انجزوا أكثر من ثلاثين عملية في درعا خلال سبعة أشهر عام 2022 في ظل تعتي ماعلامي!.
وبذات السياق تشير المصادر إلى انتشار كثيف لمجموعات عرفت محلياً باسم (الغرباء) وهم حواضن لداعش لم تعلن بيعتها بعد مع زيادة تدفق المهاجرين وارتفاع نسبة أوكار التنظيم الإرهابي داخل المجتمع فيما يعرف بسلسلة وشبكات البيوت الآمنة.
وخلال انجاز عملية نشر التنظيمات المتطرفة يتم العمل على محور استراتيجية التمدد الثاني بشكل موازي ومنفصل والمتعلق باغراق المجتمعات المستهدفة بالمخدرات فيتم إنشاء معامل التصنيع وتكوين مافيات التهريب.
وهذه الخطوة يتم العمل عليها من خلال تكتيك واضح يتمثل برفع وتيرة العنف والفتن في جنوب سوريا بوتيرة ينهار أمامها منظومة الدفاع الاجتماعي البسيط القائم على منظومة عشائرية، وبذلك يرتفع الضغط على المواطنين الذين اختاروا الحياد وأمام عمليات التفجير المتصاعدة والقتل العشوائي وحالة الفوضى وغياب الأمن يجبر المواطن المسالم على ترك حالة الحياد إلى الاختيار، وببساطة ليس امامك إلا الهروب أو الانضمام للتنظيمات المتطرفة كمخرج وحيد لتوفير الحماية أو حتى الانتقام، وهكذا يتم توفير خزانات وقود بشرية جديدة لاستدامة الفوضى.
هذه الإستراتيجية تنتهي بنسف البنى الاجتماعية وتوفر حاضنات اجتماعية لتمدد العصابات الطائفية المتطرفة وما يلازمها من توفير بيئة خصبة لتجارة السلاح والمخدرات.
وفي ضوء ما سبق يمكن تفسير ما يحصل في الجنوب السوري من فوضى عارمة تجتاح أكثر من خمسين بلدة وقرية، نحن اليوم أمام اكتمال مشهد اطباق المليشيات الطائفية الممولة إقليميا على جنوب سوريا تمهيداً لدخول محركها الرئيسي والذي سيعلن عن نفسه بلا مواربة خلال الفترة القادمة.
ما سبق يعيدنا لبداية المقال التاريخية والتي تشير إلى أن القضايا التي يدافع عنها الأردن اليوم لا تتعلق به وحده وإنما ترتبط بدون مبالغة في السلم العالمي، فالدولة الأردنية تواجه اليوم جيوش منظمة من تجار المخدرات ومهربي السلاح ويتشكل على حدها الشمالي كتل سرطانية إرهابية بمستوى تسليح وتمويل دول، عصابات تمتلك أسلحة ثقيلة وطائرات بدون طيار وعمليات تهريب بمليارات الدولارات وشبكات جريمة منظمة واستغلال لحالة المجتمع البائسة في مناطق النزاع السوري المدمرة، مشروع جرمي متكامل برعاية دول بأجندات توسعية والمتضرر ليس فقط أقليمنا كما يعتقد الجميع، بل تمتد هذه الأذرع الإرهابية عبر أمريكا الوسطى والجنوبية، من خلال شبكات تم تطويرها لتهريب وتوزيع الكوكايين في الولايات المتحدة (عبر المكسيك) وأوروبا (عبر أفريقيا)، كل ذلك لا يمكن معالجته بشكل جزئي أو من خلال مسكنات دعم اللاجئين وتوزيع البطانيات والخيم وعبث أجندات منظمات المجتمع المدني.
نحن اليوم بأمس الحاجة لمشروع (مارشال) إقليمي وبغطاء دولي يتكفل بعلاج شامل وضمن برنامج متكامل ومستدام وملزم، برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وأمني يدرك فيه الجميع أننا أمام عدو يستغل النظام الدولي والثغرات في القانون الأممي لتنفيذ أجندته الخطيرة.
وعلى الجميع ان يعي عند انخراطهم في هذه المواجهة بأنهم يدافعون عن أنفسهم قبل دفاعهم عن الأردن.