عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
أن تجالس ابو أيمن “نديم المعشر” وهو “رايق” كأنك تدخل مدينة علم مشرع ابوابها، فعند الرجل افكار ثمينة لا يتركها تتراكم او تجف وانما يشعلها في برامج وتطبيقات ويسعى بها لدى من يستطيعون فهمها او المشاركة فيها و معرفة قيمتها ..
زرته اكثر من مرة وفي كل مرة كنت ازداد معرفة وعلما في اشياء كثيرة حتى في اهتماماتي، وقد اثمرت تلك الزيارات في كتب ومقالات..
ينطلق نديم المعشر في فلسفته ورؤيته للكون والحياة من ان الله خلق الانسان وزاد عليه ليميزه عن غيره من المخلوقات بأن جعله قادراً على الابداع والخلق والابتكار، وذلك لانه يحبه وقد جعله على صورته وشاكلته، ويرى ان الانسان الذي وهبه الله العقل وهو الفيض الاول كما يقول الفارابي الذي جعل العقل اسمى المراتب لو انه سخر المعرفة والتي هي قوة وابداع لبلغ الانسان في سلم الحضارة اضعاف ما بلغ، ولاستطاع ان يخفف الآم البشرية وشاكلها، ولكن هناك من يسخر العقل والمعرفة والابداع الذي اعطاه الله لأعمال الشر وضد الابداع الخلاق ،وهؤلاء يهدمون صورة الانسان الذي اراده الله ان يشبه..
المعشر الذي زرته قبل عدة سنوات كان يفرد صورا ورسومات ومخططات ضخمة على عرض طاولة الاجتماعات وامام شاشة تلفزيونية ضخمة، كان موضوعه هو البتراء والتي اشتغل عليها كثيرا، وكان يريد لها مشروعا لا تقل كلفة انفاده عن مليار دولار، لكن مردوده سيكون عظيما، والمشروع يليق بالبتراء فلقد اراد اعادة احيائها كما كانت عليه حين نشأتها وحين كانت تحكم هذه الجغرافيا التي نعيش عليها وتتحكم في طرق التجارة والمواصلات وتصمد بأهلها العرب امام الغزو الغربي والشرقي وتترك بصماتها الشرقية وحضارتها برسم الاجيال والحفاظ عليها..
كان يريد ان يستنطق الانباط وان يبعث جيوشهم وقادتهم وفنونهم في النحت والرسم والطبابة وجرّ الماء وفلسفة الدفاع عن النفس والقدرة على حماية المدينة..
اراد ان تعود البتراء النبطية تحكي تاريخها وتعلن عن نفسها بعد غياب الاف السنين حتى لا تكون ممثلة فيما بقي من نحت في الخزنة او المذابح و فقد البنت أو البتراء الصغيرة او غيرها من الاماكن التي ما زالت شاهدة ..
اراد على الذي يدخل البتراء ان يعيشها كما كانت، وكانت متطلبات ذلك عالية الكلفة وتحتاج الى دراية وعلم وقدرة على التمثيل والاستحضار، كان يريد لكل متر في البتراء ان ينطق، كان يريد للحجر الوردي ان يتكلم عن من نحتوا عليه او جلسوا جواره او عليه او بنو حضارتهم فيه..
مشروع المعشر لم ير النور بعد، وهو برسم من يعتقده ويؤمن به، ويشكل ثورة حقيقية حضارية اقتصادية وثقافية.. سألت عن المشروع بعد ان جلست فابتسم وقال انه ما زال موجودا..
سأل ان كان لدي وقت فاجبت وقال تعال معي في رحلة جديدة من فكرة جديدة عملية قطعنا فيها شوطا ممتازا..
قلت يا ساتر ونظرنا باتجاه الشاشة وامسك محرك البحث وقال الفكرة تدور على الخروج من المدن الاردنية التي اصبحت مزدحمة ومصابة بتصليب الشرايين والمواصلات ولم تعد قادرة على ان تحمل سكانها اوزارها.. وكان لابد من كسر الحلقات التي استعصت حتى يكون الاردن قادراً على اداء دوره بشكل حضاري ولائق..
اثارت الفكرة فضولي وقلت كيف؟ قال: نؤسس لكل مدينة ضواحي او ما يسمى ريف المدينة او ضياعها، وتكون هذه الاطراف قريبة من المدينة ولكنها اكثر حرية وحركة وانتاجا وتطورا واستجابة لترجمة الافكار..
قلت كيف؟ قال انظر بدأنا بالسلط عندي هنا حوالي 300 دونم ولقريبي ايضا مساحة اخرى والى جوار ذلك حرش ممتد، فإذا ما نظرنا الى هذه المساحات وطورناها بالشكل التالي وبدأ محرك البحث يفتح الصفحات واذا بالارض البكر الوعرة وحتى المسطحة تحمل بيوتا وابراجا في الاماكن العالية وعليها مدارس وجامعات ومواقع رياضية ومتنزهات وحدائق عامة.. انها مدينة محمية تعتمد على نفسها وتتوفر فيها كل المتطلبات، ولا يحتاج ساكنها الى غيرها في ايقاعه الحياتي اليومي من تعليم وصحة ومستشفيات..
كان المنظر جاذبا وكنا مع محرك البحث نتحول ونطير في هذه الضاحية الضخمة التي يمكن ان تتسع الى 200 الف نسمة حيث جامعة ومدارس ومستشفيات وغير ذلك واطلالات ممتدة لا تغلق المكونات في المدينة المنظر بل تسمح الهندسة للجميع ان يرى الجمال الماثل في الاطلالات المدهشة..
لن تكون هذه المدينة “الضواحي” لطبقة واحدة او فئة بل تحوي كل الطبقات على قدر استطاعة كل من يريد الاقامة فيها، وقد توفر له ما يستطيع ان يملكه من شأن او تعليم او طبابة..
تجولت مع نديم المعشر في مدينته الجديدة التي ما زالت في العالم الافتراضي، لكن كنت أراها وكأنها حيّة دون ازدحام او سيارات او اعاقة، وتذكرت النحات ليسنغ الذي ما ان اكمل تمثاله واعجبه حتى ضربه بالازميل وقال له انهض وما زلت اثار الضربة..
يريد نديم نموذجا سيعمم وقد بحث له عن شركاء، وهناك ترحيب واسع وسيعقب السلط مدن اخرى في عمان والزرقاء واربد والكرك وغيرها، وهي مدن في الضواحي احدث واكبر قدرة على التفاعل..
افكار نديم عملية وحيّة والرجل متحمس لها وكنت اتمنى لو بدأ ذلك قبل 30 سنة.. ولكن هذه الافكار لا تموت فقد تعهدها نديم كما يتعهد البستاني النشيط نباتاته ، وها هو يضع البصمات فقد ابدع المصممون لدرجة انني وانا اتجول بنظري في الضاحية للسلط عبر الشاشة تخيلت انني في منتجع اوروبي او في مرحلة خارج الاردن، فقد اراد المعشر ان يترك السلبيات التي تعيشها مدننا خارج هذه الضواحي وبعيدا عنها وان ننتقل الى بيئات نظيفة مدروسة، ومدن ذكية تعظم البيئة وتحافظ عليها وتوفر على الانسان كلف كبيرة في النقل والماء والكهرباء والسكن وغيرها ..
غادرت مكتب نديم المعشر وانا اقول بيني وبين نفسي “لو كان عندنا مثل هذا الرجل الكثيرين وتمكنوا من ترجمة افكارهم لما كنا نعيش هذا الارتباك وهذه المراوحة والجدل الذي لا يصل لاهله الى هداة البال “..
كنت انهيت زيارتي وقد حملت لوحة ليوناردو دافنشي الشهيرة التي كان قد رسمها متأثرا بتشريح الدماع ومؤمنا بأن الانسان الحي وقد حلت فيه الحياة يتميز بمحبة الله والابداع.. لقد تأملت في اللوحة الشهيرة كثيرا وادركت ان لها تفسيرا جديدا قدمه نديم..
نديم .. لا قيمة للانسان ان لم يبدع!!
23
المقالة السابقة