لإن انتهت الهجمة الوحشية الإسرائيلية على جنين ومخيمها الصامد يوم الثلاثاء وبعد 48 ساعة من بدايتها فإن الحرب الإسرائيلية العنصرية الاستعمارية ضد فلسطين وشعبها لم تنته بعد. ورغم كل ذلك تتسابق المدن والقرى الفلسطينية على التصدي لقوات الاحتلال فتقدم الشهداء دون خوف أو تردد. ويتحمل المواطنون الفلسطينيون كل مشقة ويتكبدون كل خسارة ممكنة ابتداء من الأرواح مروراً بالممتلكات وانتهاء بما لديهم من أراض وأشجار.. ومع هذا فإن التصدي لهذه الحملة المسعورة والتي تسميها إسرائيل بكل وقاحة وعنجهية «البيت والحديقة» يحمل معه رسائل عدة على المسؤول قراءتها والتمعن فيها قبل فوات الأوان.
فالرسالة الأولى تعلن بشكل قطعي أن الأجيال الصاعدة في فلسطين لم ولن تنسى تراب وطنها وحقها في الحرية، وأن الشباب على استعداد للموت من أجل ذلك، سواء كانوا من مخيم جنين أو من قرية السموع التي قتلت فيها إسرائيل 21 فلسطينيا بريئا، ودمرت 120 بيتا عام 1966، أو من قرية قبية التي ارتكبت فيها إسرائيل وقبل 70 عاماً مذبحة مريعة راح ضحيتها 67 شهيداً ومئات الجرحى. وأن الشباب الفلسطيني بعد ثلاثة أجيال لم ينس فلسطين ولن ينساها. بل إن كل فلسطيني متجذر في أرضه ووطنه بعمق تاريخي متين مهما فعلت إسرائيل وأدواتها.
والرسالة الثانية تؤكد وبكل البيانات الممكنة أن الصهيونية الدينية التي تحكم إسرائيل وتحرك نتنياهو كما تريد، وهو في أعماقه جزء منها، لا تؤمن ولا تحلم إلا بالتوسع والتطلّع إلى إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، بل أكبر مساحة ممكنة على غرار ما فعل المهاجرون الأوروبيون في القارة الأميركية، ولو استغرق ذلك 200 عام. وكل ما تقوم به إسرائيل من دبلوماسية وعلاقات وتقارب مع الأقطار العربية ومشاريع اقتصادية تقترب من المفاصل الحيوية، وما تبثه من إعلام ورسائل ما هي إلا غطاء بهدف تغذية الوهم العربي حول السلام وشراء الوقت لتنفيذ برامجها. والرسالة الثالثة؛ أن غياب الفعل العربي واختباء الأنظمة العربية خلف عبارات الإدانة والاستنكار والشجب والسلام العادل وحل الدولتين والوساطة بين الأطراف، ما هو إلا تشجيع لإسرائيل على الاستمرار في عدوانها وفي احتلالها بعد أن نقضت جميع المعاهدات والاتفاقيات الموقعة معها، ابتداء من معاهدات السلام مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وانتهاء باجتماعات النقب والعقبة وشرم الشيخ وما بينها من لقاءات سرية أو معلنة. إن الغياب العربي مؤداه تشجيع لليمين المتطرف الإسرائيلي لأن يمضي قدما كما يريد، وكأنّه إشارة صريحة لإسرائيل تفهمها أن تفعل ما تشاء، حتى لو كان ذلك اجتياح جنين أو نابلس أو حوارة أو قلقيلية أو حتى المسجد الأقصى. فالدول لا تغير إستراتيجياتها خوفا من إدانة أو استنكار.
والرسالة الرابعة؛ أن الانقسام المزمن بين الفصائل الفلسطينية الذي فشلت دونه عشرات الوساطات الأهلية والعربية والدولية من جهة، والترتيبات أو التفاهمات الأمنية مع دولة الاحتلال، العلنية والسرية، الفلسطينية والعربية، من جهة أخرى، أصبح كل ذلك يخدم المصالح الإسرائيلية، إذ يتيح لها استمرار الضم والتوسع والتهويد بكلفة أقل، وغطاء مزور. وبالتالي غدا محل رفض وازدراء من الجماهير الفلسطينية، والتي ترى تجديد القيادات ضرورة وطنية. فالجماهير الفلسطينية أصبحت معتمدة على شبابها في الميدان بعيداً عن الكواليس وقاعات الاجتماعات ووساطة الوسطاء.
الرسالة الخامسة: أن برنامج الخلخلة الديموغرافية، على طريق التهجير القسري للفلسطينيين، تم استئنافه مجدداً ليس عن طريق التخويف والترهيب للمواطنين الذين لم يعودوا يخافون من الغزاة الإسرائيليين، وإنما من خلال التدمير المباشر للمنازل والبيوت وشبكة المياه وشبكة الكهرباء والطرق ومرافق البنية التحتية، وحتى يتحول التهجير إلى ضرورة للبقاء. ومن هنا فإن ما جرى في مخيم جنين حيث تم تدمير 500 منزل بسكان يتجاوز عددهم 3 آلاف مواطن فلسطيني هو جرس إنذار إلى الدول المجاورة لفلسطين، الأردن وسورية ولبنان ومصر بالدرجة الأولى، والأقطار العربية الأخرى بدرجة ثانية. وهو خطوة استعمارية تقليدية على طريق مخطط تفكيك وتفتيت التكتلات السكانية الفلسطينية واستبدالها بمناطق مكشوفة هشة، تسمح بالتوسع الإسرائيلي وخلق مستوطنات جديدة في قلب العمق الفلسطيني، وفي كل مكان. فإذا أضفنا إلى ذلك إعلان نتنياهو بانتهاء ما يسمى الدولة الفلسطينية وأن الأردن قد احتل الضفة الغربية عام 1950، وإعلان إسرائيل ضم الأغوار الفلسطينية إلى إسرائيل، والسماح بإنشاء المستوطنات الجديدة في كل مكان ندرك أن المشروع الصهيوني دخل مرحلته قبل الأخيرة والمتمثلة بابتلاع الأرض وتفريغها من السكان. لتليها المرحلة الأخيرة وهي التوسع على حساب البلدان المجاورة.
الرسالة السادسة: أن الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا ترى في المشروع الصهيوني أداة فعّالة في تفكيك المنطقة ومنع تماسكها، وإبقائها ساحة مفتوحة لتلك الدول لاستغلال ما فيها، سواء من حيث التحركات الإستراتيجية أو الثروات الطبيعية أو الإزاحات السكانية من أفريقيا أو محاصرة روسيا أو منع التوسع الاقتصادي الصيني. ولذلك تقدم أوروبا، باستثناء دول قليلة، والولايات المتحدة الأميركية الدعم العسكري والمالي والتكنولوجي لإسرائيل وتقدم التغطية الإعلامية والقانونية والدبلوماسية لكل عملية عسكرية تقوم بها إسرائيل وتذهب إلى تسميتها «العنف» أو «دفاعا عن النفس وحماية لمواطنيها ومواجهة للإرهاب». وهذا غير مستغرب، فخلال القرن العشرين والحادي والعشرين قتلت أوروبا والولايات المتحدة أكثر من 150 مليون نسمة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. إضافة إلى كل ذلك فإن السياسيين في أميركا وأوروبا وباستثناءات قليلة، أصبحوا أسرى للدعم المالي والدعاوي من المؤسسات المالية والإعلامية الصهيونية. ومن هنا فإن الوساطة والرعاية الأميركية للقاءات الإسرائيلية الفلسطينية والعربية سواء كانت في مدريد أو واشنطن أو أوسلو أو العقبة أو النقب أو شرم الشيخ أو في أي مكان على وجه الكرة الأرضية ما هي إلا خداع وتمويه دبلوماسي وإعطاء إسرائيل الوقت الذي تريد.
وأخيرا فإن ما جرى في جنين وحوارة ونابلس وكفر قدوم والقدس وغيرها سوف يتكرر بل إنه يتكرر يوميا دون انقطاع. إن من لا ينتبه إلى أجراس الإنذارات المتكررة، ومن يتوانى عن دعم الصمود الفلسطيني، ومن يستسهل الكلام دون الفعل، ومن لا يقرأ الأحداث ستصل النار إليه يوما ما. فالأطماع الصهيونية لا تعرف الحدود.