عروبة الاخباري- كتب سلطان الحطاب
كنت ازوره وهو على قيد الحياة، وكنت استأنس بكلامه وحكمته وخبراته العصامية في الحياة، فهو نموذج لذلك يحسن تعميمه..
لم أعرف احدا في التعليم العالي من اكاديميين ورؤساء جامعات ورجال تعليم ومسؤولين فيه الاّ ويحمل أعلى درجات التقدير للراحل علي القرم الذي خبر الكثيرين ممن تعاملوا معه او تعامل معهم او عاشوا في منطقة عمله وادركوا ادواره..
كان بسيطا لدرجة لافتة، وكان انسانا صاحب عطاء صامت، كان يرى ان بيئة الجامعة ومحيطها يجب ان يكون انسيابيا وجاذبا وآمنا، فقد كان صاحب نظرية ان الامن الافضل في الجامعات هو الامن المجلوب بالرضى والحوار والتعاون والمساعدة وليس الشرطة وتشديد الحراسة واغلاق المداخل..
كانت جولاته اليومية في الجامعة تشمل نواحيها الاربع وتذهب بعيدا الى عمق القرية والبيوت المجاورة التي كانت تحظى منه بتوجيه رعاية طبية وصحية دورية لها والاطلاع على احوالها والمساهمة في مشاريع داعمة لها حتى غدا الكثيرين ينتظرونهاو يكتبون إليه او يواصلون زيارته..
احب بلده “الشيخ علي” جوار مدينة يافا وظل يذكرها دائما، كما ظل يتحدث بلهجتها الدسمة..
روى لي قصة كيف بدأ حياته العملية وكيف دفعته الحاجة الى السفر الى المملكة العربية السعودية في السنوات الصعبة والقاسية، وقد تعلم القدرة على التحمل وتعرف على الكثير من المغتربين ومن الشخصيات البسيطة التي ساعدها وحتى الشخصيات العصامية التي اعجب بها..
كان علي القرم “ابو ايهاب” قد ترك سرّه في احترام الناس وفي اولاده الذين حفظوا اسمه وصانوه ، وحين زرت الجامعة وقصدت مكتبه كان ابنه “المهندس اياد” الذي تولى ادارة هيئة المديرين من بعده قد وضع صورة والده فوق الكرسي الذي كان والده يجلس عليه، ولم يسمح لنفسه او لأحد ان يجلس، في لفتة تقدير خاصة بالراحل..
كان “ابو ايهاب” يحترم الناس كبيرهم وصغيرهم، ولم يكن يتردد في رواية جوانب من حياته ليكون عبرة للكثيرين ممن يتطلعون الى التجربة، كانت الجامعة غرسه المفضل وشجرته التي يدعم العناية بها، وهو من أسماها “الزيتونة” تيمناً بالشجرة المباركة، وكان حريصا ان ينجز بناء مسجد في ساحة الجامعة وعند مدخلها وان يسميه باسم بلدته ومسقط رأسه وقد فعل، وحرص على ادائه الصلاة فيه واختيار امامه بنفسه..
ورغم انه حظ ابو ايهاب من التعليم كان متواضعا الا ان كبار الاساتذة والاكاديميين ورجال الحكم بمن فيهم رؤساء وزارات ووزراء كانوا ينصتون اليه بعمق، ويشيدون برأيه وتجربته، ليس لأنه صاحب مال او تعيين وإنما لأنه صاحب فكرة وتجربة ..
في كل المرات التي كنت ازوره فيها في مكتبه او حتى منزله كنت استمع لتجربته بعمق، وقد طرحت عليه كتابتها للأجيال ورغب في ذلك، ولكنه اجّل اكثر من مرة لانشغاله، وحين كنا نلتقي كان يقول لي:” شو صار؟” فكنت اضحك واقول: انت تريد ان تربح في اليانصيب دون ان تشتري ورقة، فالأصل ان تجلس وتعطي وقتا لنتحدث واسال واطلع على اوراقك واستمع لتجربتك، وقد تحمس لذلك وكذلك وانا وقمت بزيارة الى يافا، وسألت عن “قرية الشيخ علي” المهجورة وعن موقعها وعرفت الكثير من التفاصيل، ولكن القدر كان اسرع فقد انشغل وسافر وعاد ولم يتمكن من اعطاء وقت، وحين رحل أحسست بالفاجعة وبقيت المعلومات في صدري وهي النتف التي كان يبادرني بالحديث فيها بين الحين والاخر..
لقد عمل معه الكثيرون وترك لديهم انطباعات غنية، ومنهم “ابو سداد” عيد الفايز ومعالي حازم قشوع وزير البلديات الاسبق وامين محمود رئيس الجامعة ومجموعة اخرى من رؤساء الجامعات واعضاء مجالس الامناء والمديرين، وكان يحرص ان يدعو للجامعة شخصيات لتحاضر فيها وابرزهم “الدكتور احمد الطيبي” الذي كانت تربطه علاقات مميزة، وقد رافقتهم في رحلة في خليج العقبة وكنت أرى كيف يتصرف الراحل الكبير..
الاسبوع الماضي احتفى أهله واصدقائه ومعارفه في حفل لتأبينه، وقد لفت انتباهي لذلك صديقه جمال الصرايره الذي ظل يذكره بالخير، فقد كنت ارغب في الحضور لولا انني كنت متعب في الفراش..
رحم الله ابو ايهاب فقد بقيت ذكراه عطره واسمه منقوش في جامعة ستبقى منارة للاجيال.. فقد كانت أثمن هدية يقدمها للجيل، فقد ظل يقول لي في ان تحدي انه لم يدرس ما يكفي في شبابه قد دفعه لتعليم التعليم وبناء جامعة..
د. اياد علي القرم