ما دفعني لكتابة هذا المقال اتصال أجراه معي قبل بضعة ايام أحد مراسلي وكالة أخبار دولية تساءل فيه عن مدى صحة الانطباع بارتفاع منسوب توقعات القيادة الفلسطينية من لقائها المرتقب مع الرئيس الأمريكي. أفدته بعدم معرفتي يقيناً، ولكن أضفت على عجل بأنه لا ينبغي أن يكون هناك حتى مجرد وهم بأن بايدن يهدف لأكثر من التأكيد على الجانب الفلسطيني بضرورة التحلي بالمزيد من الصبر إزاء ما آلت إليه الأمور وأن هناك “طاقة فرج” تلوح في الأفق يجب الاستعداد لاستغلالها، خاصة وأن إدارته، بخلاف سابقتها، ملتزمة تماماً بحل الدولتين، وما إلى ذلك وحواليه مما يخطرعلى بال أهل السياسة من مصفوف الكلام عند الحديث عن فلسطين القضية، مع الحرص على إضافة الالتزام بأهمية العيش بكرامة عند الحديث عن فلسطين الناس، وهكذا.
حتى وإن أخذت بايدن الحميّة وأضاف جملة هنا وأخرى هناك بخصوص ضرورة احترام الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف، والتوقف عن هدم منازل الفلسطينيين وعن ترحيلهم، وحتى إن أتى على ذكر الشيخ جراح ومسافر يطا، فهل يؤسس أي من ذلك للاعتقاد ولو للحظة بأننا على عتبة الولوج إلى غد مشرق يعيد الثقة بإمكانية ما يسمى جزافاً “بعملية السلام” أن يضع الأمور على مسار يُمكّن الفلسطينيين من تثبيت حقوقهم ونيل تطلعاتهم؟ طبعاً لا. فالوضع القائم في الحرم الشريف لم يعد وضعاً ثابتاً، وإنما هو وضع دائم التحور باستمراء اسرائلي ودون توقف، وكذلك الهدم والتهجير والقتل والتنكيل. وكل ذلك بالتزامن مع تحور الدعوة لوقف الأعمال الأحادية لتعني حصراً إحجام الفلسطينيين عن ملاحقة إسرائيل جنائياً على الساحة الدولية، دون التفات، لا بل بتشجيع ودعم، خاصة من قبل الإدارة الأمريكية السابقة، لإسرائيل في تجذير احتلالها الاستعماري وضمها الفعلي للأرض الفلسطينية التي احتلتها في عام ١٩٦٧.
من جهة أخرى، فقائمة التظلمات الفلسطينية والتوقعات المتصلة بها من الإدارة الأمريكية طويلة، وهي بلا أدنى شك محقة. ولكن لا ينبغي الخلط بين أحقية الطرح ووجاهته. وعلى وجه التحديد، لست مقتنعًا على الإطلاق، لا توقيتاً ولا مضموناً، بوجاهة الموقف الفلسطيني، الذي يتكرر التأكيد عليه في مختلف المحافل ومن قبل مختلف المستويات القيادية الفلسطينية والعربية والدولية، بشأن ضرورة “إحياء عملية السلام”، أو “استئناف هذه العملية من حيث توقفت”، أو “إعادة إطلاق عملية سلام جادة”، إلى غير ذلك، وبما بات يشمل، خاصة في الآونة الأخيرة، ضرورة أن يصار إلى أن يكون هناك أفق سياسي، إن لم يكن لشيء، فعلى الأقل “كمحلل” لما يسمى بإجراءات بناء الثقة، ومن باب الحرص على “سمعة المحل”، ليس إلا.
لا أستند في تقييمي هذا إلا الى قناعة باتت موضع شبه إجماع فلسطيني باستحالة أن يكون ممكناً على المدى المنظور توقع قبول أي حكومة اسرائيلة بحل يلبي ولا حتى الحد الأدنى لطموحات الشعب الفلسطيني وتطلعاته، ناهيك أن يكون منطلق هذا الحل التسليم بأن الفلسطينيين شعب له، كسائر شعوب العالم، الحق الطبيعي في تقرير مصيره. إذاً ما جدوى الاستمرار في التداول في هذا الوهم، خاصة في ظل ما هو سائد من معطيات أفرزتها حالة مزمنة من الاختلال في موازين القوى بين القوة المحتلة وبين شعبنا ضحية هذا الإحتلال؟ أليس من المنطقي أن نكون نحن الفلسطينيين مقتنعين بوجاهة مثل هذا الطرح قبل أن نتوقع من الآخرين تبنيه؟
إن حصل وفاجأ بايدن الجميع بالحديث عن ضرورة “إحياء عملية السلام”، فعلى قيادتنا ألا تنظر إلى ذلك كمفاجأة سارة. بل حري بها أن تسأله عما تغير منذ توليه منصبه منذ نحو عام ونصف ليدفعه لتغيير موقفه من اعتبار محاولة الاستمرار على نحو ما دأبت عليه إدارات امريكية سابقة من إعطاء أولوية للتفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول ما يسمى بقضايا الوضع الدائم امراً غير ذي جدوى. وفيما يتجاوز ذلك، حري بالقيادة الفلسطينية أن تذكره بمبدأ توجيهي شكل مرتكزاً أساسياً لحملته الإنتخابية لجهة التزامه “بالعودة إلى الأصول” في إدارة الولايات المتحدة لعلاقاتها الدولية، والتي انقلب سلفه على معظمها بوجه عام، وعلى جميعها فيما يتصل بالشأن الفلسطيني بدءاً بقراره نقل مقر السفارة الأمريكية إلى القدس.
يذكر أنه في أعقاب الإعلان عن القرار المذكور، وحتى قبل أن تم النقل الفعلي لمقر السفارة، جرى ترويج على نطاق واسع لفكرة مفادها استحالة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء فيما يتصل بهذا الشأن في مرحلة ما بعد ترامب. ومن هذا المنطلق، لم يكن مستغرباً ألا تتطرق أفكار إدارة بايدن فيما يتعلق “بالعودة إلى الأصول” في قضايا الشرق الأوسط لموضوع السفارة. ومن الناحية الفعلية، تم كي الوعي في هذه المسألة بالغة الحساسية فيما يتعلق بمصالحنا الوطنية، وتم تجاوزها لمراجعة الإدارة الأمريكية بشأن إجراءات أخرى وعدت بتنفيذها بشكل حاسم في اتجاه تصويب الخلل الذي الحقته سياسات إدارة ترامب وإجراءاتها المتعلقة بالشأن الفلسطيني، وفيما شمل إعادة فتح كل من المكتب التمثيلي لمنظمة التحرير في واشنطن والقنصلية الأمريكية العامة في القدس.
بطبيعة الحال، لم يتم أي من هذا، وباتت المماطلة سيدة الموقف تحت ذرائع مختلفة تمحورت بشكل أو بآخر حول التسليم بصعوبة تنفيذ أي إجراء أمريكي يتعارض مع رغبة إسرائيل. فتارة يعزى التأخير لحساسية الموقف فيما يتصل بالمفاوضات للعودة للاتفاق النووي مع إيران، ومراراً إلى ضرورة الحرص على عدم تفككك الائتلاف الحاكم في إسرائيل. وهكذا تستمر المماطلة، وستستمر حتى وإن تغيرت المعطيات سالفة الذكر، وذلك لاعتبارات سياسية أمريكية محلية يكمن جوهرها في صعوبة اتخاذ أي إجراء يتعارض مع رغبة الحكومة الإسرائيلية، أي حكومة إسرائيلية. الأمثلة على ذلك كثيرة، وآخرها، ولن يكون الاخير، تمثل في تصريح للناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الامريكية الأسبوع الماضي لم يقصد منه سوى النأي بإسرائيل عن أي مسؤولية جنائية، أو حتى مجرد معنوية، في واقعة استشهاد شيرين ابوعاقلة.
فيما يتعلق بإعادة فتح القنصلية، وبالرغم من تنامي الشعور في أوساط الحزب الديموقراطي الحاكم بضرورة اتخاذ مواقف أكثر حزماً إزاء تجاوزات إسرائيل، فإن أعضاء بارزين في الحزب، ومنهم زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، يعارضون هذا الإجراء بشدة. وهكذا، ومرة تلو المرة، على الفلسطينيين أن يصبروا ويتفهموا. والسؤال: إلى متى؟
آن الأوان لأن تبدأ الإدارة الأمريكية بالتفكير بأن صعوبة التعامل في الشأن الفلسطيني الإسرائيلي ليست حكراً على إسرائيل. وتحديداً، أقترح البدء في تصعيب الأمور فلسطينياً من خلال الطلب بشكل محدد من الرئيس الأميركي بعد أن يفرغ من معزوفة “هذه صعبة وتلك أصعب”، أن يبادر بالطلب إلى وزير خارجيته إلغاء قرارين اتخذهما وزير الخارجية السابق بومبيو، يتعلق أولهما ( تشرين ثاني 2019) بالإعلان عن عدم اعتبار الاستيطان الإسرائيلي منافياً للقانون الدولي، وثانيهما ( تشرين ثاني 2020) بوسم صادرات المستوطنات الإسرائيلية إلى الولايات المتحدة كمنتجات إسرئيلية المنشأ، بما يعنيه ذلك من ضم اسرائيلي فعلي لأرض فلسطينية محتلة.
حتى وإن تبنى بايدن هذا المطلب، ولا أعتقد أنه سيفعل بالرغم من يسر الإجراء المطلوب وبالرغم من أنه يؤشر فعلاً وليس قولاً فقط في اتجاه “العودة إلى الأصول”، علينا أن ندرك بأن أي جهد حقيقي في اتجاه تصعيب الأمور فلسطينياً يجب أن ينطلق من الكف عن توقع أي تحول جدي لصالحنا إن لم نبدأ بكل جدية وإصرار في العمل على “قلع شوكنا بأيدينا”. لهذا متطلبات باتت معروفة للجميع، وتتلخص في السعي الجاد لإصلاح “المحل” ، وليس فقط في الحرص على سمعته. هذا يعني السعي الجاد لتحقيق وحدة الحال أولاً فلسطينياً، وتالياً مع الاشقاء العرب. وكذلك يعني احترام مبدأ أن الشعب هو صاحب الولاية وأن احترام إرادته وحقوقه وحرياته هو حصن قيادته ومبرر وجودها، وهو وحده مصدر شرعيتها.