عروبة الاخباري- كتب سلطان الخطاب
لا ازعم ان التاريخ يعيد نفسه، فالتاريخ كالنهر ينساب لا تستطيع ان تستحم في ماء النهر مرتين، ولذا لا يعاود التاريخ نفسه وان تشابهت المعطيات والملامح..
قرأت القدس في التاريخ وكتبت عنها اكثر من كتاب، وتابعت من تصدروا للكتابة والحديث عنها وخاصة في الجوانب السياسية التي لا تنطبق مع الجوانب الدينية احيانا، فالدين ساخن والسياسة باردة..
من الذين تناولوا الحل في القدس من المفكرين العرب كان الراحل عدنان ابو عودة، وقد كتب عن ذلك في اوراقة وحاول ان يقدم معالجة سياسية شاملة..
ماذا تقول اوراق التاريخ؟ ومن كان يملك القدس ام من يجب ان يملكها؟ موضوع القدس والحل فيها استدعاني تاريخيا حين تحدث الرئيس عباس في مكتبه في رام الله وقد كنت استمع إليه وتناول الوصاية الهاشمية على المقدسات، ورد على من يعترضون من العرب وعلى الذين كانت لهم اطماع في الوصاية، وقد رد عليهم الرئيس بالرفض، مشيرا الى ان الوصاية هامة تاريخيا وأننا أي الفلسطينيين نثق بالوصاية الهاشمية “الاردن”، واننا وافقنا ووقعنا مع الاردن اتفاقا في ذلك، ولدينا النص وذلك في اذار عام 2013 ..
والوصاية على القدس ليست جديدة وليست فقط في العصر الحديث او منذ الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1921، بل انها كانت قد سبقت في التاريخ وحتى في زمن الصراعات ومع قيام المصالحة والاتفاقيات والتسويات، حيث تكرس دائما ان الحاكم السياسي لمدينة القدس كان مضيفا ومضيفاً كريما..
ويبدو ان الرئيس عباس يفهم الوصاية على المقدسات كما فهمها القادة والمؤرخون والزعماء الكبار عبر تاريخ القدس، سواء من كانوا في موقع الانتصار او حتى في موقع التسليم.. فما هو الحل في خضم الصراع وكيف مارسه القدماء؟ وهل نجحوا؟ وهل نحن بحاجة الى قراءة التاريخ؟
الذي يعطل الحل في القدس هي اطراف امريكية متطرفة في الادارة وخارجها، كان ابرزهم الرئيس السابق ترامب وليس المعطل هم زعماء المنطقة سواء كانوا من هذا الطرف او ذاك..
فما هي الروايات التاريخية..
قاسمة الظهر كانت في قرار الرئيس ترامب في 6/12/2017 والذي انفذ فيه قرار الكونجرس المتخذ عام 1995 (نقل السفارة في القدس)، وهو القرار الذي يتوج مساعدات مستمرة للكيان الاسرائيلي بلغت 130 مليار دولار منذ عام (1948- 2018)..
وكانت الجهود الامريكية والاسرائيلية والتفهم من جانب بعض الاطراف العربية المستغرقة في التطبيع استهدفت تحويل السيطرة السياسية على القدس الى ملكية حصريه بالقوة للاسرائيليين..
المسلمون والمسيحيون بصفتهم ورثة في تاريخ القدس استلهموا تاريخها جيداً، ولم تفرقهم الانتصارات على حرمان الاخرين من الشراكة أو العبادة، بل جعلوا الشراكة موصولة، ودافع الكثير من زعمائهم عنها، وهناك وقائع تاريخية لن نبدأ فيها من عام 587 قبل الميلاد حين دمر نبوخذ نصر النابليون بالسبي او ما قام به تيطس عام 70 ميلادية..
وكان للتدمير ردود فعل اذ أقام المسيحيون كنيسة القيامة لتأكيد رمزيتهم، في حين اقام المسلمون قبه الصخرة لاعلان دورهم ورعايتهم..
بل سأبدأ من التاريخ العربي التراثي المدون في الكامل لـ “ابن الاثير” وفي “الطبري” وغيرهم..
ونقفز من عام 587 قبل الميلاد وعام 70 ميلادية الى مرحلة صلاح الدين و ريتشارد قلب الاسد ملك انجلترا والمملكة اللاتينية في القدس.. انطلقت الشخصيتان في نهاية الامر من ان القدس مكان يملكة الجميع ولا يملكه احد حتى وان انتصر، وهي ملك لكل اتباع الديانات التوحيدية، وهذا ما يجب ان يؤخذ بعين الاعتبار وفي تحديد هوية المدينة المقدسة..
فهي ميراث كوني وان الذي يسيطر عليها يجب ان يكون راعيها المؤتمن عليها، هكذا تعامل القادة المسلمون مع المدينة عبر التاريخ حتى حين كانوا يمتلكونها بعد فتحها وانتصاراتهم، وحين كان امتلاكها مغريا وتسمح به سلطتهم، وصلاح الدين خير مثال حين وضع بعد فتحها حدا للحرب بين المعسكرين المسلمين والصليبيين “الفرنجة”، وقد سمح لهم بعد الفتح أن يعاودوا رحلات الحج الى القدس، وهذا لم يرق لريتشارد قلب الاسد الذي طلب من صلاح الدين في رسالة يعرب فيها ان لا يسمح لحجاج الفرنجة بدخول المدينة إلّا لمن يحمل تصريحا موقعا منه.. وما عدى ذلك فعلى المسلمين ان يردوا الفرنجة.. فماذا كان جواب صلاح الدين؟ “انه لا يستطيع منع اي واحد من الفرنجة من زيارة القدس لأن في ذلك انتهاكا لواجباته كمضيف”.. وهذه عبارة عصرية لم يقصد فيها صلاح الدين الدعاية الاعلامية وانما كان موقفه ينم عن وعي تحلى به بعض حكام العرب والمسلمين الذين لم يعتبروا القدس ملكية حصرية، وانما اعتبروا انفسهم امناء على المدينة وأوصياء..
وليس هذه هي المرة التي قرر فيها صلاح الدين ان يكون دوره حارسا حتى وان مكنته القوة لما هو اكثر، وتذكر كتب التاريخ لمن يريد القراءة ان صلاح الدين بعد الفتح والسيطرة العسكرية التي لم يردها انتقاص حقوق اصحاب الاديان الاخرى قام في اكتوبر عام 1187م وبعد 88 سنة من احتلال الفرنجة للقدس عام 1069 بتشكيل مجلس من قادة جيشه ودولته وكبار العلماء لمناقشة مصير كنيسة القيامة اذ نصحوه بعدم المساس بها، اذ ان القانون يملي على المسلمين الدفاع عنها وحماية حق المسيحيين بتاديه مراسم الحج اليها والى القدس عامة، مستشهدين في بما ورد في سلوك عمر بن الخطاب وفي العهدة العمرية ..
ومفهوم الرعاية هذا يفهمه الرئيس محمود عباس تماما وهو الذي يفسر كيف ظل المسيحيون من كبار الملاكين العقاريين في المدينة حتى عام 1917 عام الاحتلال البريطاني لفلسطين رغم سيطرة المسلمين عليها لأكثر من 1300 سنة..
القدس لكل الاديان السماوية التي تجعل من المدينة مركزا دينيا لعباده الله ، وكل ديانة منها اضفت طابعها الخاص وروايتها وسرديتها بها وحدها..
المسلمون في حفاظهم على الاماكن المسيحية واليهودية في القدس وفي حرية الوصول اليها ليس معناه ان المدينة لم تكن مهمة لهم، فهم مرتبطون بالقدس كعرب ومسلمين وفيها تراث مشترك مع اليهود والمسلمين، وعمق المسلمون بصماتهم في القدس حتى اصبحت جزء من تراث القدس الاسلامي، و لذا جاء تشييد قبة الصخرة وكل المعالم والاثار الاسلامية في القدس منذ الامويين الى الاحتلال البريطاني شاهدا على اهمية القدس في نظر المسلمين، ففيها نزل قرآن ومنها عرج الرسول (ص) بعد ان اسرى، ومنها ستكون القيامة، ولهذا حج اليها المسلمون وحطوا فيها الرحال.. وفي القدس يقدس المسلمون الراجعون من مكة حجهم الذي توقف بفعل الاحتلال الان، وفيها كان يعتزل العلماء والمتصوفة ومنهم الغزالي حجة الاسلام والنووي وغيرهم.. وفي مقابرها الاف الشهداء من الصحابة والتابعين وغيرهم (ماميلا).. فالمسلمون رأوا في واجب الرعاية ان يسيطروا على المدينة ليضمنوا الرعاية والاستضافة، وكانوا مستعدين لتقاسم السيطرة السياسية على القدس بل وتسليمها لغيرهم مقابل السلام وضمان حقوق الجميع .. وخاصة للمسلمين، وهناك مثال في فترة صلاح الدين ففي عام 1191م عرض ملك بريطانيا ريتشارد قلب الاسد على شقيق صلاح الدين المسمى الملك العادل والذي اصبح سلطانا فيما بعد ان يتروج اخته جوان .. فناقش الأمر مع السلطان صلاح الدين وفي بلاطه فوافقوا، ونص الاتفاق ان يتخذ الزوجان العادل وجوان من القدس عاصمة لهما ويحكمان معا فلسطين، إلا ان روما افشلت الاتفاق، لقد تشدد باباواتها المعادين للمسلمين ولم يسمحوا بأي مهادنة بل عملوا على تخريب الاتفاق، ورفضوا اي مقترحات قادمة من قادة الفرنجة في القدس (هذا ما تفعله الادارة الامريكية الان بتشجيع المتطرفين الاسرائيليين وتعطيل أي حل) .. وتعطل الاتفاق ليعاود الظهور بعد اربعة عقود عندما ابرم السلطان الكامل (قريب صلاح الدين) وفريدريك الثاني حاكم الامبراطورية الرومانية المقدسة اتفاقية سلام لتقاسم القدس، وهو الاتفاق الذي انهى الحروب الصليبية وأوقف القادة الاوروبيين عن حرب المسلمين او القدوم الى المنطقة.. وضمن الاتفاق عام 1228 للمسلمين الحق في ادارة شؤون الحارة المسلمة بما في ذلك ذلك الحرم الشريف، وللمسيحيين الحق بتسير شؤونهم في الحارة المسيحية وضمان لبقية الطوائف حقوقها ووصولها الى اماكنها المقدسة، وكان بامكان المسلمين دخول قبة الصخرة والمسجد الاقصى للعبادة وللمسيحيين دخول كنيسة المهد وغيرها للصلاة، كما ان مفهوم الرعاية انسحب ايضا تجاه حقوق اليهود في ممارسة شعائرهم في القدس، فقد دفعت كما يروي التاريخ حادثة عام 1473م وكذلك في عام 1475م بين المسلمين والطائفة اليهودية في القدس، وقد استشعر الحكام المسلمون انذاك ومع وقوعها واجب حماية اليهود في القدس، حين لم يكن احد يحميهم او يؤيدهم، وحين كان المسلمون مسيطرون تماما ولم يخضع الحكام المسلمون للنداءات الشعبية المطالبة بعد الحادثة بمصادرة ممتلكات اليهود وخاصة ان الأمطار في تلك السنة جرفت مباني يهودية في الحارة ، وأراد المسلمون من العامة مصادرتها وقطعه الأرض التي حولها لتكون منفذ للمسجد، وقد وقع جدال حاد بين المسؤلين والناس ومعهم فقهاء، فرفض السلطان المملوكي قايتباي المقيم في القاهرة احداث الشغب وحمى اليهود بعد أن عقد اجتماعا للفقهاء ليقرر علماء الشريعةفي مصر حق اليهود في الكنيس المهدوم من المطر والمصادر وسمح لهم بإعادة إعماره ، وحين رفض الفقهاء وبعض العامة في القدس قرار السلطان أحضرهم من القدس إلى القاهرة وعاقبهم وأعفاهم من وظائفهم..
اليوم الصهيونية وقادة اليمين في اسرائيل تهين الديانة اليهوديةبما تفعله في القدس ضد مقدسات المسلمين والمسيحيين وتستكبر القيادات الاسرائيلية التي تغريها القوة لمصادرة القدس واعتبارها ملكا حصريا (عاصمة) لهم كما يفعل نتنياهو ومن جاء بعده وبتشجيع من ادارات غربية متطرفة تستعمل القوة العسكرية والنفوذ لتحويل القدس الى ملكية حصرية.. وهؤلاء لا يقرأون التاريخ ولا يريدون معرفة معنى الوصاية!!