انطلقت قبل أيام، وبرعاية ملكية سامية ،رؤية التحديث الاقتصادي” والتي تركز على الفترة 2023-2033 وتحمل عنواناً فرعياً “اطلاق الامكانات لبناء المستقبل”.وتسعى هذه الرؤية في بعض نتائجها النهائية لزيادة دخل الفرد بمتوسط سنوي 3% او ما يمثل نمواً للاقتصاد الوطني بمعدل 5.6% سنوياً، وخلق مليون فرصة عمل او ما معدله 100 ألف فرصة عمل سنوياً. الأمر الذي يتطلب استثمارات جديدة تقدرها الوثيقة بالمتوسط 4.1 مليارات دينار سنوياً. وتضمنت الوثيقة الاشارة الى 8 محركات رئيسية لتنفيذ ما ورد في الرؤية تتمثل في “الاستثمار” و “الريادية والابداع” و”نوعية الحياة” والبيئة المستدامة” و”الموارد المستدامة” و”الصناعات عالية القيمة المضافة” وتحويل الاردن الى وجهة مقصودة على المستوى العالمي والتفوق في الخدمات المستقبلية. ولا شك ان الجهد المبذول في اعداد الوثيقة يستحق التقدير والثناء وإن جاءت عكس ما كان يتوقعه الكثيرون بسبب التوسع في التوصيف و العموميات و ترك الكثير من المسائل مبهمة. غير ان التحدي الأكبر بعد صياغة الافكار و التوجهات يتمثل في نقاط رئيسية أربع
:الاولى آليات التنفيذ والثانية ضوابط العمل والثالثة آليات الشراكة بين الاطراف ذات العلاقة وكفاءة هذه الآليات و الرابعة التمويل الوطني. وهنا يمكن الاشارة الى عدد من الملاحظات وعلى النحو التالي
اولاً: ان الجهاز الرسمي للدولة يلعب دوراً حاسماً في رسم مسارات النجاح او منزلقات الفشل لأي برنامج أو رؤية. واذا كانت الرؤية مصممة لتكون عابرة للحكومات، باعتبارها تمثل رؤية دولة ،فإن تفهم الجهاز الوظيفي للرؤية و البرامج التي ستنبثق عنها، وتفاعله مع محتوياتها وتفاصيلها عن وعي وايمان ومسؤولية، يمثل حجر الزاوية في نجاح المسيرة الاقتصادية التي سوف تمتد لمدة 10 سنوات. بمعنى ان الأمر لا يعتمد فقط على الوزراء والمدراء و كبار المسؤولين بقدر ما يعتمد على كل موظف في الدولة كل في موقعه ليتحول من مسيطر و متحكم بالمواطن إلى ميسر و مساعد في إطار القراءة الإيجابية للقانون.
ثانياً:ولكي يتحقق الاستعداد بصورة صحيحة ربما على كل مؤسسة ووزارة تخصيص الاشهر الستة الأولى من برنامج تنفيذ رؤية التحديث لتأهيل موظفيها، ليكونوا طرفاً فاعلاً في التنفيذ، عن قناعة وتفهم وتفاعل، لا عن مجرد الطاعة لما يصدر من التعليمات. وهذا التأهيل لا يتحقق الاّ من خلال التعاون مع الخبراء والاكاديميين والقطاعات ذات العلاقة لوضع برامج تعريفية مكثفة للموظفين في كل مؤسسة، تتضمن محاضرات ونقاشات حول كافة التفاصيل التي اشتملتها وثيقة رؤية التحديث الاقتصادي و برامج التنفيذ من منظور تخصص تلك المؤسسة او الوزارة، وبالتالي استيعاب دور المؤسسة وتفهم دور الموظف.
ثالثاً: ان كلفة الطاقة المرتفعة، و بطء الإجراءات، و عدم اكتمال الثقة بالإجراءات الإلكترونية الرقمية، لا زالت تمثل العامل المحبط المشترك بين مختلف القطاعات.ولم تتناول الوثيقة البدائل الممكنة للخروج
رابعاً:ان الوثيقة على الرغم من التوسع في كثير من المواضيع إلا انها تناولت موضوعي المياه والطاقة ببساطو توصيفية تماما كما تناولت المواضيع الأخرى. هذا في حين ان أي تحديث للاقتصاد وأي تحسين لنوعية الحياة يتوقفان بالضرورة على “مركب المياه والطاقة و الغذاء”، و الذي هو لدينا بالغ الهشاشة.و يزداد هشاشة سنة بعد أخرى نتيجة لثقافة التسويف من جهة و تسارع التغيرات المناخية من جهة ثانية و عدم استقرار المنطقة من جهة ثالثة.
وبالتالي فإن البرامج التنفيذية التي سيتم وضعها في جميع المجالات ينبغي ان تأخذ ذلك بعين الإعتبار. ان أي تحديث للاقتصاد وتحسين نوعية الحياة، و إعمار البلاد، و تطوير القطاعات الإنتاجية، كل ذلك يتوقف بالضرورة على مدى الصلابة الوطنية لمركب المياه والطاقة و الغذاء باعتباره ركنا رئيسا في بناء الأمن الوطني، بكل ما يستلزم ذلك من إعتماد على النفس واستثمار وتنويع وتخفيف الاعتماد على الآخرين، وخاصة دولة الاحتلال الصهيوني و التي تسعى للسيطرة على المفاصل الحيوية العربية.
خامساً:تناولت الوثيقة التعليم في مرحلتيه الاساسي والعالي. ولكن مستوى الانفاق على التعليم والذي هو متواضع بالمقاييس الدولية ولا يتعدى 500 دينار للطالب في الاساسي، و3500 دينار للطالب الجامعي ،لا بد من معالجته بزيادة الانفاق على التعليم، ووضع آليات مستقرة لتحقيق هذه الزيادة، ولتمويل التعليم بشكل منتظم، بعيداً عن التقلبات الموسمية، من خلال الصناديق الاستثمارية والصناديق الوقفية وبنك التعليم و من خلال اعادة رسوم الجامعة للجامعات في صندوق خاص، وعدم دخوله الخزينة.
سادساً: لم تعط الوثيقة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي حقه من الاهتمام ،سواء من حيث معدلات الانفاق على البحث العلمي، او اعادة توجيه البحث والتطويرليركز على وضع الحلول اللازمة للمشكلات التي يعاني منها المجتمع و الاقتصاد الوطني بقطاعاته المختلفة. وهذا يتطلب ان تتوافق الجامعات ،الرسمية و الخاصة و مراكز الأبحاث، مع الحكومة بان يركز الباحثون والمطوّرون والمبدعون على الجوانب التطبيقية والتجريبية التي تتأثر بها حالة الانتاج ،ويتاثر بها الاقتصاد والمجتمع، والابتعاد قليلاً، ولو لفترة محدودة 10 سنوات، عن البحوث النظرية التي تهدف فقط الى النشر العلمي لغايات الترقية.
ولا يزال الانفاق على البحث العلمي لدينا متواضعاً و أقل من 0.8% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 2.2% المتوسط العالمي و 4.9% لإسرائيل. وكان من المتوقع ان تضع الوثيقة رقماً مستهدفاً لتخصيصات البحث والتطوير والابداع لا تقل عن 2.0% من الناتج المحلي الاجمالي. وخلال السنوات الماضية لم تفلح الجهود في تجسير الفجوة بين القطاعات الانتاجية وبين الاكاديمياً يسبب الإفراط في الإستيراد و تقاعس الإدارات الرسمية عن حل التناقض الظاهري بين عائدات الجمارك و مساندة الإقتصاد الوطني من خلال التوسع في الإنتاج.هذا إضافة إلى الإعتماد على المؤسسات الأجنبية، مما ادى الى ضعف مزدوج في الإنتاج و الأكاديميا. الأمر الذي يتطلب اهتماماً خاصاً وآليات مستقرة للتجسير ومحفزات لكل من القطاعات الإنتاجية والاكاديميا.
سابعاً: أشارت الوثيقة الى تحديث النقل وهو ركن من اركان الاقتصادات الحديثة. وكان هناك اشارة الى شبكة سكة حديد تربط جنوب الاردن بشماله وهو أمر غاية في الأهمية. وتبلغ كلفته التقديرية في حدود 4 مليار دينار لكن لا يتضح كيف يمكن انجاز ذلك خلال السنوات العشرة القادمة، وكيف سيتم التمويل ،وهل ستكون الشبكة الاردنية مستقلة تنطلق من العقبة، ام ستكون جزء من شبكة شرق اوسط تنطلق من حيفا، تسعى اسرائيل والولايات المتحدة الى انشائها لتشمل اقطار عربية متعددة.
وأخيراً فان الرؤية يتطلب تنفيذها فترة زمنية اطول بكثير من 10 سنوات، خاصة وانها تناولت معظم القطاعات في نفس الوقت. وكان من المتوقع ان تركز الوثيقة على قطاع أو قطاعين مترابطين ،او توجه واحد كالبطالة أو التصنيع و تضع الأرقام المستهدغة ،ليكون ذلك التوجه بحد ذاته رافعة للقطاعات الأخرى، وبذا يمكن للجهود ان تتركز وتتبلور، بدلاً من تفرق الجهود في شتى الاتجاهات، خاصة وان النمو الاقتصادي يتأثر بعوامل عدم استقرار المنطقة والتغيرات المناخية وفرط الاعتماد على المنح والمساعدات والقروض.
وكان من المتوقع ان تؤكد الوثيقة على مساهمة كافية من الحكومة و مؤسساتها في تمويل المشاريع،إضافة إلى مشاركة الاردنيين في الاستثمارات وخاصة صغار المدخرين وان تؤسس الرؤية لبناء اقتصاد اجتماعي تكنولوجي متماسك اسوة بما نجد في بلدان متقدمة كثيرة.إن قطار المستقبل يتحرك بسرعة فائقة و الإعتماد على الذات هو مفتاح الدخول.