أزمة مالية تعصف بالوضع الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية، شاهدنا على ذلك التقليص المتتالي لسلم الرواتب ولو بشكلٍ مؤقت، في وقتٍ تعاني فيه غالبية الناس من وضعٍ اقتصادي صعب، وبالكاد تستطيع أن تؤمن مصاريفها الحياتية اليومية.
فمن شهرٍ لشهر، يبدو العجز المالي للسلطة الوطنية الفلسطينية، واضحًا، وفاقعًا، وخصوصًا على صعيد دفع الرواتب للعاملين بها. فمنذ خمسة شهور هناك صرف لنحو 80% من الراتب الأساسي فقط بسبب الشح الذي يزداد شهرًا بعد شهر في الميزانية العامة للسلطة. رغم كل الجهود التي تقوم بها لتأمين الرواتب، وكف يد الاحتلال عن أموال (المقاصة) الفلسطينية، وهي الأموال المُجباة كضرائب لقاء تدفق البضائع لأراضي السلطة الوطنية في مناطق العام 1967.
من المفيد لتبيان الأمور، العودة للوراء قليلًا، فمنذ سنواتٍ سابقة، طالعتنا الجهات الرسمية في الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ ادارة الرئيس الأسبق (ويليام جيفرسون كلينتون) بمقولة “السلام الإقتصادي”، وهي المقولة التي انطلقت بعد تعثر مسار التسوية بشكلٍ كبير، فكانت تلك المقولة أشبه بـ”أضحوكة” التي مهمتها مسخ القضية الوطنية الفلسطينية من قضية تحرر وطني واستقلال إلى مسألة اقتصادية بحتة، يُمكن حلها بالدعم المالي العربي ومن الدول الأوروبية المانحة. وعمليًّا، أطلق تلك المقولة وزير الخارجية الأميركي التالي في إدارة ما بعد الرئيس كلينتون الوزير (جون كيري) تحت عنوان خطة اقتصادية أمنية خالية من أي أفق سياسي مُحدد، ولكنه كان يُراهن بمضمون عرضها على جعلها طريقًا لانتشال عملية التسوية المنهارة منذ ما قبل تلك الفترة، وحافزًا ضاغطًا على القيادة الفلسطينية وعموم الفلسطينيين لاستئناف المفاوضات وبالشروط “الإسرائيلية”.
وبرغم أن الدبلوماسي الأميركي وزير الخارجية (جون كيري صاحب الخطة التي ذاع صيتها) قد أفصح في حينها، عن أبرز ملامح خطته خلال جولاته المكوكية التي تنقل فيها بين الجانبين الفلسطيني و”الإسرائيلي” وعدة عواصم عربية، وجوبهت، بتحفظٍ، بل ورفضٍ فلسطيني، فقد أعلن خطته أمام المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي عقد في 25 مايو/أيار 2017 في البحر الميت، بوصفها أحد ثلاثة مسارات ستشق، إلى جانب الأمني والسياسي، انفراجة “جدية وملموسة” حسب رأيه، وهو ما تأكد بهتانه تمامًا وانهيار تلك المقولة بفعل الموقف الوطني الفلسطيني المتماسك.
فـ(خطة) الوزير الأسبق (جون كيري) الاقتصادية كانت تندرج في إطار ما يسمى “بناء الثقة” (لاحظوا: تقزيم قضية التحرر الوطني لبناء الثقة، وتصبح قضية اقتصادية فقط…)، من أجل تهيئة الأجواء المواتية لعودة الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي” إلى التفاوض. وتتضمن الآتي:
أولًا: ضخ أربعة مليارات دولار من الاستثمارات في الأراضي المحتلة (من الدول العربية والدولة المانحة ودون كلفة أميركية ولو بسنت واحد. فدول الاتحاد الأوروبي ممول مالي للخطة، لكنها قزم سياسي من الوجهة الأميركية).
ثانيًا: من شأنها المليارات الأربعة من العملة الأميركية أن “تزيد الناتج المحلي الفلسطيني بنسبة 50% خلال ثلاث سنوات (على حد تقدير الطرف الأميركي).
ثالثًا: تخفيض نسبة البطالة إلى الثلثين، خصوصًا في قطاع غزة خوفًا من انتفاضة شعبية عارمة في القطاع “تحرق الأخضر واليابس وتقلب الأمور رأسًا على عقب”.
رابعًا: زيادة متوسط الرواتب بنسبة 40% أيضًا، مع السماح للسلطة الوطنية الفلسطينية باستغلال الفوسفات من البحر الميت وإعطائها حق تطوير حقول الغاز قبالة شواطئ غزة.
خامسًا: الاهتمام بالموضوع الاقتصادي، واعتباره المدخل لحل القضية الفلسطينية، مع شطب قضايا فلسطينيي الشتات، كاللاجئين…إلخ.
وبالطبع، إن الجهد الأساسي الأميركي جاء في حينها، في سياق الضغط على الفلسطينيين، ومقايضة بقاء الاحتلال بتدفق المساعدات والأموال، للسلطة الوطنية الفلسطينية، التي نشطت على كل المستويات، السياسية والدبلوماسية، واستطاعت أن تُفرمل عجلة الاندفاع الأميركي التي هدفت لتحويل القضية الوطنية للشعب العربي الفلسطيني، من قضية تحرر وطني لشعبٍ تحت الاحتلال إلى مسألة مساعدات مالية وتنمية تحت سقف “الوعود البراقة” التي طالما كانت قد تحدثت بوقتٍ سابق عن تحويل القطاع إلى “سنغافورة الشرق الأوسط” وبالتالي تبليع الفلسطينيين الأوهام الخادعة.
إن هدف الإدارة الأميركية من كل ذلك، كان تمرير حل للقضية الفلسطينية إلى ما هو أدنى بكثير من سقف قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، فضلًا عن تقزيم القضية الفلسطينية وتحجيمها وشطب قضية الشتات الفلسطيني.
وقبل فترة زمنية، وتحديدًا في آذار/مارس 2017، نشر موقع صحيفة “ذي إيكونوميست” ملفًّا عن العلاقة بين “السلام الاقتصادي والتطبيع” كما نقلت الكثير من المصادر ومنها (نشرة كنعان)، ركّز التقرير على سلب الموارد الطبيعية الفلسطينية، في الأرض المحتلة عام 1967. وبالتالي تصبح ثروات فلسطين 1948 و1967 ملْكًا “شرعيًّا” لدولة الاحتلال الصهيوني.
وبالمحصلة، سعى وما زال يسعى الاحتلال “الإسرائيلي” ومن خلفه الإدارة الأميركية، بما يُسمى “السلام الاقتصادي”، ليكون كبديل عن الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو ـ حزيران 1967 وحق العودة للاجئين الفلسطينيين…إلخ. وبالتالي الالتفاف عن امتلاك رؤية أو حل يستند للشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة، وهذا يجعلنا نفهم لماذا يتم حصار السلطة الوطنية الفلسطينية، ماليًّا، والشح بالرواتب من شهرٍ لآخر. بل وأحيانًا العجز عن صرف رواتب الناس العاملين بالسلطة الوطنية. وقيام سلطات الاحتلال بوضع يدها على أموال (المقاصة)، وهي الأموال المجباة كضرائب لقاء تدفق البضائع للأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967.
لقد بانت أكذوبة “السلام الاقتصادي” وانهارت تمامًا. ولم يعد من مكان منذ وقتٍ طويل. فلا حل إلا بالعودة للشرعية الدولية وقراراتها ذات الشأن بالنسبة للقضية الفلسطينية.
الاحتلال وأكذوبة السلام الاقتصادي / علي بدوان
9