الدكتور إبراهيم بدران
يسجل بالإعجاب والتقدير حب الأردنيين للتعليم، وحرص كل عائلة أردنية أن تتيح لأبنائها وبناتها الفرصة للتعليم العالي في الجامعات، حتى لو كان ذلك على حساب دخل الأسرة، وربما موجوداتها من مدخرات أو أملاك. ومع أن هذا التعلق بالتعليم الجامعي له أسبابه النفسية والمجتمعية والاقتصادية، وتوسع على حساب الأشكال الأخرى من التعليم وخاصة التعليم التكنولوجي والمهني إلا أنها ميزة إيجابية.
كما يسجل التقدير والثناء للقرار الذي اتخذته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ومجلس التعليم العالي بوضع ضوابط تأهيلية للدراسة في الجامعات الأجنبية، حفاظاً على نوعية رأس المال البشري ممثلاً بالخريج الذي سيعود الى الوطن ويصبح جزءا من المنظومة الاقتصادية الاجتماعية الادارية للدولة. ويقضي القرار الذي تم إعلانه قبل أيام، بأن الطلبة الأردنيين الذين سيدرسون في الخارج لدرجة البكالوريوس، اعتباراً من العام الدراسي 2023\2024 عليهم أن يحصلوا علامات في الثانوية العامة (التوجيهي) في كل تخصص يرغبون فيه، تعادل أو أقل قليلاً من العلامات التي يدخل الطالب فيها ذات التخصص في الجامعات الاردنية. يضاف إلى ذلك أن طالب الدراسات العليا في الجامعات الاجنبية عليه أن يقضي في جامعته مدة لا تقل عن 8 أشهر للماجستير و20 شهراً للدكتوراه”. وقد لاقى القرار على أهميته اعتراضات من البعض واعتبروه إجحافاً بحق الطلبة، كل لأسبابه الخاصة. ولذا من الضروري والمفيد تبيان بعض الحقائق التي توضح ضرورات هذا القرار.
خلال العقود الثلاثة الماضية، توسع التعليم الجامعي لدينا ووصلت أعداد الطلبة الجامعيين اليوم إلى أكثر من 4 % من المواطنين الأردنيين و3 % من مجمل السكان. وهي نسبة مرتفعة تماماً بالمقاييس العالمية. حيث نجد النسبة في اليابان 2.3 % وفي كوريا 3.7 % وفي الصين 2.4 % وفي قبرص 4 %. وتوفرت أعداد كافية من الجامعات الرسمية والخاصة حيث لدينا 3 جامعات لكل مليون من السكان مقابل 2.5 جامعة لكل مليون في بريطانيا و5.5 في اليابان و2.2 في الصين و6.0 في سنغافورة و7 في قبرص، في حين أن المتوسط الأوروبي 3 جامعات لكل مليون من السكان. وتدل جميع المؤشرات على أنه مع هذا التوسع في التعليم الجامعي أخذ مستوى التعليم العالي في التراجع لأسباب كثيرة، لا بد من مواجهتها وإصلاح الخلل الناشئ عنها. وسوف لن نستعرض جميع الأسباب وراء هذا التراجع وإنما سيكون التركيز على أسباب ثلاثة: الأول عقدة الشهادة، والثاني التخبط الحكومي في تمويل التعليم الجامعي الرسمي والثالث: منوال القبول في الجامعات.
ولأن الأردنيين يريدون لأبنائهم وبناتهم التعليم الجامعي وهم على حق بذلك، فإن التسابق على المقاعد المتاحة في الجامعات الرسمية أخذ يتصاعد بدرجة كبيرة، لان رسوم التعليم في الجامعات الرسمية ضئيلة تماما، مما يخفف على أولياء الأمور نفقات التعليم. وذهبت الإدارات الرسمية لتعزيز الموقف فأصبح التوسع في قبول الطلبة في الجامعات الرسمية إلى درجة الازدحام وسيلة للتمويل ونوعاً من الاسترضاء الشعبوي. وهذا جعل المقاعد المتاحة في الجامعات الرسمية وفي التخصصات التي لها رواج عند الطلبة (وإن لم تكن كذلك في سوق العمل) غير كافية لمواجهة الطلب. من جانب آخر فإن نظام القبول الموحد في الجامعات والذي يعتمد، حتى اليوم، على علامة التوجيهي فقط دون الأخذ في الاعتبار تحصيل الطالب في المرحلة الثانوية، ولا مدى ملاءمة قدراته للتخصص الذي يريد، خلق تسابقاً غير مبرر، وتوزيعاً للطلبة في تخصصات لا يرغبونها، وبالتالي لا يستطيعون الإبداع والتميز في المستقبل. وقد نشأت خلال الثلاثين سنة الماضية جامعات خارجية كثيرة، تتساهل مع الطلبة الأجانب وتقبل التحاقهم بالتخصص الذي يطلبون بغض النظر عن قدراتهم وتحصيلهم في الثانوية العامة. لقد أصبحت الدراسة في الخارج الطريق الأسهل لاستكمال التعليم الجامعي، سواء للبكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه. فالمهم في عقول البعض “الحصول على الشهادة” ليرجع الخريج يطالب بالوظيفة كالمعتاد. وقد نجم عن ذلك العديد من المشكلات في مقدمتها أولاً: إتاحة الفرصة لمن لديه المال لكي يتخصص فيما يريد بغض النظر عن قدراته، في حين أن نظيره المتفوق الذي لا يملك المال محروم من هذه الفرصة. ثانياً: تراكم اعداد كبيرة من خريجي الجامعات الاجنبية في شتى التخصصات لا يتمتعون بالمستوى العلمي والمهني التخصصي المطلوب نظراً لتواضع نوعية التعليم (في كثير من الأحيان) وضعف أهلية الطالب في أحيان أخرى. الأمر الذي انعكس سلبياً على الخريجين أنفسهم وارتفعت بطالة الجامعيين حتى تجاوزت 50 %، وانعكس سلبياً على المجتمع وعلى التعليم الجامعي نفسه بسبب ضعف الأداء. ومن هنا جاء قرار التعليم العالي ليحقق هدفين اثنين:
الأول: أن يكون الأساس للدخول في أي من الجامعات الاردنية أو الاجنبية هو التحصيل العلمي المتكافئ لجميع الطلبة، حسب التوجيهي اليوم (وتطويراته مستقبلا)، وليس القدرة المالية فقط.
الثاني: أن يكون القرار دافعا لجميع الطلبة الى الاجتهاد والدراسة وحسن التحصيل، سواء كانوا يملكون المال أو لا يملكون.
ولا أحد يمكن أن ينكر أهمية تحقيق هذين الهدفين من منظور النهوض بنوعية التعليم والعدالة الاجتماعية والجانب التربوي.
أما التعليم العالي بعد البكالوريوس فالأساس فيه ليس الشهادة أو اللقب، وإنما “تحويل الطالب الذي اجتاز الدرجة الجامعية الأولى من متعرف ومتلق للعلم والمعرفة، الى شخص قادر على التفكير في ذات العلم والمعرفة وقادر على استخراج الافكار الجديدة والحلول المبتكرة وإضافة شيء جديد للعلم أو التكنولوجيا. ولذلك سميت الدرجة PH.D دكتوراه فلسفة في التخصص أو ماجستير فلسفة في التخصص”. ومن هنا فإن وجود طالب الماجستير أو الدكتوراه في قلب المحيط الجامعي الذي يدرس فيه، أمر ضروري لغايات التواصل والاحتكاك العلمي مع الآخرين من أساتذة وباحثين ومطورين وطلبة، اضافة الى مصادر العلوم والمعلومات من مراكز أبحاث وصناعة ومكتبات ومتاحف وسواها. وبالتالي فهو بحاجة إلى وقت كافٍ يقضيه في إطار التفكير والبحث العلمي والإبداع والتجديد. ومع انتشار الإنترنت وتنامي تجارة التعليم للأسف لدى جامعات وبلدان عديدة، فقد أصبح من السهل نقل المعلومات والنصوص ووضعها في رسالة من قبل الطالب نفسه أو اي شخص أو مكتب، دون أن يغادر الطالب منزله أو وظيفته في الأردن. وهذا ما يحصل في أحيان كثيرة. ومن هنا فإن بقاء الطالب في محيطه الجامعي الفعلي لفترة كافية من شأنه أن يتيح له الفرصة لكي يتحرك في الدراسات العليا بشكل أفضل.
أن يكون هناك حرص من الطالب وذويه على الحصول على الدرجة العلمية، فهذا حق لا غبار عليه. ولكن من حق الوطن أيضاً على أبنائه وبناته أن يكون الخريجون بالمستوى العلمي والمهني الصحيح والجيد، والذي يمكنهم من العمل بثقة وإبداع ويجعلهم ليس عبئاً على الوطن بل قيمة مضافة عالية قادرين على التفاعل مع المستقبل.