عروبة الاخباري – كتب سلطان الحطاب
رحل عدنان أبو عودة وقد تجاوز الثمانين التي اضجرت زهير بن ابي سلمى الشاعر الجاهلي حين قال:
سَئِمْـتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِـشُ ثَمَانِيـنَ حَـوْلاً لا أَبَا لَكَ يَسْـأَمِ
وازعم ان عدنان أبو عودة “أبو السعيد” لم يسأم ولم يضعف عن القيام بواجبه الاساس وهو التفكير و تحليل المعطيات السياسية وبنائها .. فقد كان قريبا من الملك الراحل الحسين وهو ابن القصر الملكي الهاشمي لسنوات طويلة خدم فيها ملكين الحسين وعبد الله الثاني .. وان كانت خدمته مع الملك عبد الله قصيرة في حين كانت مع الملك الحسين طويلة وغنية ومنوعة..
عدنان أبو عودة شخصية مثقفة ومسيسة وواعية وهو منظر من طراز رفيع، ادرك الغرب وجامعاته قيمته فافردوا له مساحات ومساهمات لتحدث في اهم الجامعات مثل هارفرد عن مراحل عديدة من تاريخ الدولة الاردنية ومنعطفاتها..
كان أبو عودة واحد من الذين تحملوا المسؤولية في السنوات الصعبة عام 1970 فقد جاء من المخابرات وكان ضابطا برتبة رائد الى الحكومة الايلولية، ليكون وزيرا للاعلام ومن هنا لمع نجمه…
لم يغادر أبو السعيد الا بعد ان وضع تجربته على الورق، فترك مجلدات ضخمة من ارشيفه ومذكراته حشد فيها كل شيء حتى اصبحت تاريخا .. صحيح فيه اشياء لم ترد كما رواها ولم تكتب كما كتبها واهتم المتابعون بما كتب، وتابعوا ما كتب وبعضهم رد والبعض الاخر اتفق معه..
يستطيع المراقبون ان يجدوا عدنان أبو عودة في رواية المواقف الصعبة المختلفة، فهو لديه رواية مختلفة عن فك الارتباط ولديه رواية عن المفاوضات الأردنية- الاسرائيلية وعن ما دار عشية الاحتفال في البيت الابيض بأسلو وحول القدس تحديدا.
واذكر ان “أبو السعيد” قد دعاني الى منزله قبيل قرار فك الارتباط بيومين ، وكنت ما زلت في الجريدة، فقد كنت رئيسا لتحرير صحيفة صوت الشعب، فتوجهت اليه ليلا في المنزل، وكان وحيدا ودخلت الى منزله في صويلح عند الدوريات وجدته يجلس الى مكتبه يقلب اوراقا ، فاستقبلني وطلب ان يأتوني بالقهوة، وبعد حوالي خمس دقائق من استراحتي على كرسي مجاور قال: “اريدك ان تقرأ هذه الأوراق” ومد لي مجموعة من الاوراق الشبيهة بالتي يسجل عليها الباحثون خلاصاتهم مكتوبة بقلم رصاص، فقلت: ماذا؟ قال” اقرأها..
فقرات وصعقت.. كان ذلك كما عرفت منه مسوده خطاب للملك حسين عن فك الارتباط ، ابديت استغرابي وقلت: معقول يتخلى الملك عن الضفة الغربية بهذه الطريقة؟! فابتسم وقال: نعم ولذلك حسنات، فاستغربت وقلت: متى ينفذ ذلك؟ قال: بعد ثلاث ايام سيعلن الخطاب على الناس، فقرات قصاصات الورق مرتين واحسست بجدية أخطر ما سيقال ويمارس.. وحين قلت له لا اصدق، قال لا عليك ان تصدق وارجو ان لا يعلم احد بذلك الى ان يعلن الملك ذلك وفي خطاب للأمة، وبعدها يمكنك ان تعلق لكن قبل ذلك لا وكأنك لم تر او تسمع..
عدت الى المنزل مضطربا اخشى العواقب ، وبالفعل انتظرت اليومين واستمعت للخطاب الملكي الذي لم يتغير فية الا كلمتين او ثلاثة وادركت انه اصبح نافذا ..
في المساء يوم القاء الخطاب جاء أبو السعيد الى جريدة صوت الشعب فاستقبله السيد عبد الحي المجالي الذي كان رئيس مجلس ادارة ممثلا للقطاع الخاص، واتصل بي ان احضر الى مكتبه، فقال أبو السعيد حين اتيت اريد ان اصعد الى مكتب الحطاب فاخذته معي وجلسنا على انفراد، وقال ما رايك في الخطاب؟ قلت سأقول رأيي مكتوبا، فقال هذا جيد ونريد ان نكتب اكثر من مرة ، وان تتناول كل جوانب الخطاب، قلت إذن سأبدأ الكتابة في حلقات وقد فعلت.. وفجأة قال اريد ان اقول شيئا قبل ان اترك.. فانتبهت فقال ان الكثيرين من الشخصيات العامة والوجهاء والمسؤولين من الضفة الغربية سوف يصلون الى عمان لمقابلة جلالة الملك وقد وصل بعضهم فورا في يوم الخطاب، ونتوقع ان يتدفق عدد كبير منهم وكلهم يحاولون الضغط لالغاء القرار والتراجع عنه والتأثير ان لا يحدث.. ولذا أريد ان اقول اننا لن تستقبل مثل هذا الراي، ولذا لا تنشر شيئا يتعاطف مع ذلك، لقد اتخذ القرار ولا يمكن التراجع عنه، قلت: من هم اكثر المجموعات التي تريد التراجع ؟ قال جماعة مدينة الخليل لقد وصلوا وحركوا الكثيرين وطالبوا بمقابلة جلالة الملك بإلحاح.. وسوف اعمم على الصحف الاخرى ان لا تنشر مواقفهم ، لأننا نريد للقرار ان يمر وهو ليس مطروحا للتصويت ولن يناقش في البرلمان..
وبدأ يشرح ايجابيات هذا القرار للفلسطينيين و لمنظمة التحرير في جعلها في مواجهة الاسرائيليين والتأكيد على تمثيلها للفلسطينيين في الداخل حتى لا تبقى اسرائيل تتذرع بالدور الاردني والخيار الأردني.. وأسهب أبو السعيد في الشرح وقال ان منظمة التحرير ستكون مرتاحة لهذا القرار الذي جرى التأسيس له منذ مؤتمر الرباط ومنذ اعتبرت المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد وجاء الان وقت الانفاذ..
لم يكن أبو السعيد يعرف حينها ان تطبيق قرار فك الارتباط سينعكس سلبا وبشكل مفاجئ على الاشخاص والعائلات والافراد، وانه سيفرق بين المرء واخيه وصاحبته وبنيه، حين يعتبر احدهم اردني والاخر فلسطيني ، وان من لا يحمل الرقم الوطني يختلف عن من يحمله حتى لو كانوا اشقاء توأم، وبدأت الماكينة الادارية البيرقراطية للدولة تعاقب الكثيرين بالممارسات الارتجالية الخاطئة التي تمنع المتضرر من ان يذهب للمحكمة وتمنع البرلمان من ان يفتي في تلك الاشكاليات باعتبار ان فك الارتباط من قرارات السيادة التي لا تناقش ،وقدر جرى التواطؤ في ذلك والسكوت عليه، وزاد حجم المتضررين من تطبيقه عبر سنوات لاحقة طويلة حرمت الكثيرين من حقوق لهم وابرزها حق التعليم والتطبيب والسفر او الاقامة او الملكية ، ولم تتعب الحكومات في الشرح اوالتوضيح بل صممت وبعض المسؤولين احترف تطبيقا جائرا لم يتوقف الا قبل بضع سنوات وبتدخل ملكي رسمي أحيانا.. وكنت كلما قابلت الاستاذ عدنان أبو عودة كان يقول: “قرار فك الارتباط بريء مما يفعلون” وهو لم يأت لحرمان الناس حقوقها بل التشريع لمرحلة جديدة واعطاء الناس مهلة للتكيف مع القرار وليس استعجال تطبيقه، وسحب امتيازات الكثيرين وتركهم يعانون في كل يوم.. وقد حاول الراحل أبو عودة ان يرد على كثير من الاجراءات الخاطئة، فألف كتابه “العلاقات الاردنية الفلسطينية” الذي طلب من الملك عبد الله الثاني بعد ان قرأه ان يكتب مقدمته ،ولكن ردود الفعل على الكتاب كانت سلبية من اطراف كادت لابي عودة وارسلته ليقف بين يدي المدعي العام حين تقدمت اطراف برفع دعوى عليه..
الموقف الآخر الذي اريد ان اذكره لعدنان أبو عودة وقد شهدته شخصيا هو حديثه امام الرئيس صدام حسين بحضور الملك الراحل وذلك في 4/1/1990 في ذكرى تأسيس الجيش العراقي وقبيل الاحتفالات الضخمة بذلك ، ولهذا حلقة أخرى..