د. ابراهيم بدران
تعتبر الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، الركن الأساسي للأمن الغذائي. وحقيقة الأمر ان “مربع البقاء” للدول والمجتمعات يتمثل في المياه والطاقة والغذاء والتكنولوجيا.
ودون تكامل مفردات هذا المربع بدرجة عالية من الفاعلية الدائمة والوصول المنتظم إلى المواطن، وبالكلفة المناسبة التي يستطيع تحملها، فإن الأمن المجتمعي والسياسي للدولة يدخل في متاهات معقدة للغاية وغير مأمونة.
وقد كشفت جائحة كورونا ان العالم معرض لتوقفات مفاجئة في التجارة والنقل والإنتاج في حالة الأوبئة، والتي تحمل التغيرات المناخية المتسارعة فرصا كثيرة لحدوثها.
الأمر الذي دفع مسألة الأمن الغذائي الوطني لتكون في قمة الأولويات، وجعل من الاعتماد على الإنتاج المحلي الخيار الأمثل ليكون السند الرئيسي للأمن الغذائي. كل ذلك يعطي للزراعة بعدا استراتيجيا أضخم بكثير من مجرد حصتها من الناتج المحلي الإجمالي.
ومع أن الأردن كان يحتفظ بكميات كبيرة من الأغذية المستوردة قبل الجائحة إلا أن “دليل الأمن الغذائي” food security index لدينا أخذ في التراجع لأسباب عديدة في مقدمتها: ارتفاع نسبة الفقر إلى 24 %، وتفاقم نسبة البطالة إلى 24.3 % (4 أضعاف المعدل العالمي)، واستمرار بطء النمو الاقتصادي 2 %، وتصاعد تكاليف المعيشة، والفروق المعيشية الضخمة بين المناطق والتجمعات السكانية في أرجاء البلاد.
وهذا ما دفع جلالة الملك عبدالله الثاني لتجديد الدعوة للحكومة للتركيز على “الأمن الغذائي والاعتماد الذاتي والزراعة والتكنولوجيا، ومواجهة البطالة”.
فبدون الزراعة ليس هناك من ضمان للأمن الغذائي في الظروف الطارئة، ودون تكنولوجيا حديثة تقوم على نتائج البحث العلمي والتطوير والإبداع بما يلائم الظروف المحلية، فليس هناك من فرص للوصول إلى إنتاج متقدم في الكم والنوع للمحاصيل.
ومع ان الزراعة كانت المصدر الرئيسي للمعيشة والبقاء في الأردن على مدى مئات السنين، الا انه بعد أن أخذ القطاع دفعة قوية إلى الأمام منذ الخمسينيات وحتى اوائل التسعينيات، تخلت الحكومات عن المساندة والاهتمام، وراح القطاع الزراعي وعلى مدى سنوات طويلة يعانى من التهميش التدريجي ثم التهشيم، والنظر اليه من بعض السياسيين والاقتصاديين من منظور سطحي، من حيث الاستهانة بمساهمته الظاهرة في الناتج المحلي الاجمالي والتي تتراوح بين 3.5 % إلى 5 %.
هذا دون إدراك القيمة الإستراتيجية للقطاع من حيث الأمن والعمران والغذاء، ودون إدراك المساهمات غير المباشرة في الناتج المحلي الإجمالي والتي قد تصل إلى 20 %.
لقد تمثلت مظاهر التهميش في جوانب عديدة منها:
اولا: تواضع المخصصات الرسمية للمشاريع الرأسمالية في الزراعة، والاعتماد على المنح والمساعدات والتي، بطبيعة الحال، تأتي متقطعة ومتنائرة ولا تصلح لبناء قطاع قوي ومتماسك.
ثانياً: التوسع المفرط في الاعتماد على استيراد المواد الغذائية بحيث اصبح 90 % من الغذاء لدينا مستورد.
اما الاكتفاء الذاتي فهو فقط في الخضار وجزء من الفواكه، مع تأرجح الإنتاج في المواد الحيوانية.
ثالثاً: استمرار الرسوم والجمارك المفروضة على مدخلات ولوازم الإنتاج والتصنيع الزراعي وخاصة الآليات والمعدات، ولفترة طويلة، مما ضاءل من التصنيع والمكننة والتحديث.
رابعاً: شح المياه وما يستتبع ذلك من انحسار المساحات المزروعة وتوجس الكثيرين من الاستثمار في مشاريع زراعية جديدة.
خامساً: إهمال التطوير التكنولوجي لأساليب الزراعة وبرامجها والذي يجب ان تقوده الدولة والجامعات على نطاق واسع ليصبح النمط السائد لدى القطاع بأكمله، وليس فقط في عدد محدود من المزارع.
سادساً: تواضع مستوى المكننة الزراعية والتي لا تزيد على 25 %.
سابعاً: تفتت ملكية الأراضي الزراعية وخروج الحكومة من مسؤولية تطوير البدائل، وزحف المباني على الرقعة الزراعية.
ثامناً: ضعف الارشاد والتوجيه الزراعي ومحدوديته وغياب الجامعات والفنيين عن الميدان.
تاسعاً: تفكك الجمعيات التعاونية الزراعية وضعفها وغياب الدعم الرسمي لها.
عاشراً: تركيز الإنتاج على الاصناف التقليدية والمتكررة وغياب الزراعة التعاقدية.
حادي عشر: تفاقم مشكلات التخزين والتسويق، وتنامى الفروق المجحفة بين ما يصل المزارع من عائدات وبين الأسعار التي يدفعها المستهلك.
ثاني عشر: تواضع حجم العمالة الوطنية العاملة في الزراعة بسبب تواضع المستوى التكنولوجي للقطاع، وبالتالي الاعتماد على العمالة الوافدة.
ورغم الجهود التي يبذلها المزارعون والمشاق والمخاطر التي يتحملونها، إلا أن المسألة أعقد بكثير من أن تتم معالجتها من خلال خطة قصيرة المدى، وبشكل فردي ودون مشاركة الدولة والجامعات والتشبيك مع الجمعيات والاتحادات الزراعية النوعية، باعتبار أن الزراعة ليس مجرد إنتاج، وانما هي حلقات مداخلة من المياه والبيئة والصناعة والتجارة والجمارك والتمويل والعمل، وبالتالي فهي إنتاج واعمار واستقرار واستثمار وبحث وتطوير مستمر.
وقد فرضت التغيرات المناخية وجائحة كورونا مجموعة من الاشكالات الخطيرة التي تتطلب المواجهة العلمية والسياسات طويلة الأمد القائمة على الجدية والاستقرار والاستمرار والتمويل الوطني. وأهم هذه الاشكالات بطبيعة الحال تتمثل في تناقص المياه وارتفاع درجات الحرارة والجفاف، وزحف التصحر. من هنا فإن اهتمام الملك عبد الله الثاني بالموضوع الزراعي وبالأمن الغذائي والتطوير التكنولوجي ينبغي ان يكون حافزاً للعمل على خطة وطنية طويلة الأمد يكون هدفها وغايتها وليس فقط شعارها الثورة الخضراء، وينخرط فيها العلماء والخبراء والباحثون على غرار ما فعلته الهند قبل 54 سنة. لقد خرجت الهند من الفقر الغذائي والمجاعات المتكررة، حين أطلقت عام 1968 ثورتها الخضراء لتصبح رابع بلد على مستوى العالم في الإنتاج الزراعي، وتصبح بلداً مصدراً للغذاء بما في ذلك القمح والارز. كذلك بعد الثورة البيضاء اصبحت ثاني بلد في العالم في انتاج الحليب.
إن القطاع الزراعي يتطلب برنامجاً يمتد من 10 الى 15 سنة دون انقطاع، حتى يحدث التغيير المطلوب.
وربما تكون المفاصل الرئيسية للبرنامج في الاطار التالي:
اولا: الالتزام بتصنيع الزراعة في مدخلاتها ومخرجاتها، وزيادة المكننة الزراعية لتصل 90 %، وإعفاء جميع مدخلات ولوازم الإنتاج من الجمارك والرسوم.
ثانياً: ان تأخذ كليات الزراعة في الجامعات دوراً فاعلاً في حل المشكلات التي تتطلب الدراسة والبحث، وتحديد السلالات عالية الإنتاج والأكثر تحملا للحرارة والجفاف.
ثالثاً: ان تعمل مراكز الأبحاث والجامعات على تطوير جميع تكنولوجيات الري الأقل استهلاكا للمياه وأساليب تعميمها على المزارعين.
رابعاً: ان يجرى العمل على تطوير الزراعة في المناطق الجبلية بطريقة أكثر كفاءة مما هي عليه الآن، ويمكن الاستفادة من تجارب دول كثيرة مثل الصين.
خامساً: اعتبار النهوض بالزراعة (وبالتالي الأمن الغذائي) مشروعاً وطنياً يخصص له التمويل الكافي والمناسب.
سادساً: إعادة تنظيم المزارعين والمزارع في جمعيات تعاونية زراعية حتى يمكن تعميم الخدمات الزراعية بشكل فعال.
سابعاً: العمل على تحديث مزارع الإنتاج الحيواني (بما في ذلك الطيور) تمهيدا لإدخال تكنولوجيات جديدة.
ثامناً: إحكام التشبيك الفعال والمرن بين مراكز البحث والتطوير وبين الارشاد الزراعي وبين المزارع.
حادي عشر: العمل على حل مشكلات الطاقة وكلفتها للزراعة من خلال تعميم الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في المزارع.
ثاني عشر: العمل على تعميم الزراعة الذكية في الزراعات النباتية والحيوانية وتشكيل لجنة فنية متخصصة لهذا الغرض.
ثالث عشر: تيسير التمويل للمشاريع الزراعية.
رابع عشر: التوسع في منظومات تحلية المياه الصالحة للزراعة. خامس عشر: تطوير التدريب والتأهيل الزراعي ليصبح جاذباً للشباب وتركيز التدريب في دول حققت نجاحات كبيرة في الزراعة وإنتاج الغذاء.
ان الزراعة قطاع مجتمعي بامتياز، لا ينجح ولا يتقدم الا بالتواصل والتشبيك الفعال بين مراكز البحث والتطوير من جهة والمزارعين من جهة ثانية والمرشدين الزراعيين من جهة ثالثة، تحت مظلة الدعم الحكومي من الوزارات ذات العلاقة. كما ان التدريب والتأهيل على التكنولوجيات الزراعية الجديدة يتطلب تأهيل المزارع والعامل الزراعي، الأمر الذي يستدعي تواجد مراكز تدريب في كل لواء حتى يستطيع المزارع نفسه ان يتفهم الأساليب والمفاهيم الجديدة. وهنا لا بد من الاستفادة من تجارب الدول التي نجحت في ثورات زراعية ضخمة مثل الصين والهند حتى يمكن بناء نماذج جديدة. وهنا يصبح دور منظمات المجتمع المدني والاتحادات النوعية والجمعيات التعاونية بالغ الأهمية. فهل سيشهد المواطن الأردني في مستقبل الأيام منظومة جديدة للزراعة والأمن الغذائي تلتقي فيه التكنولوجيا مع الإنتاج مع العلم والإرادة الدائمة والإدارة الناجعة؟ ذلك هو التحدي.