عروبة الإخباري- كتب سلطان الحطاب
سلام عليك يا يحيى.. ويحيى هذا ليس رجلا معاصراً او يمكنكم أن تلتقوه، انه “أمير ايلة وقراها” .. مررت على مدينته وكان لزاما علي أن أطرح عليه السلام و أن أحيىه، فقد مكنني الصديق سهل دودين من زيارته مرة أخرى في أيلة (مدينة العقبة)، والعقبة اسم معاصر وحديث في حين أن الاسم الحقيقي والتاريخي هو “ايلة” الإمارة التي كانت تحكم من ساحل البحر الأحمر حتى مادبا، ويحيى هذا اسمه في كتب التاريخ أيضا “يوحنا” و”حنا” وهو من رؤبة، وجاء اسمه “حنا بن رؤبة”، وهذا الامير عاصر الرسول (ص) وسمع به وكتب إليه.. فما هي قصة حنا؟ ولماذا ذهبت لألقي عليه التحية في عيد الميلاد حيث ترفرف روحه بالمناسبة باعتباره اسقف الكنيسة الأرثوذكسية العربية الغسانية، فقد كان عربيا على رأس إمارة الغساسنة الذين تحالفوا مع العرب الفاتحين في موتة وبعدها.. وما زال امتدادهم قائما في عرب مسلمين ومسيحيين في جنوب الأردن..
كيف كان ذلك؟ .. حين بدأ رجل الأعمال الجريء صبيح المصري يستثمر بشجاعة قل نظيرها في العقبة ويبني مشروعا اسماه بذكاء (ايلة) ليعيد الوهج للمكان، ويمكن التاريخ من أن ينساب مرة أخرى في جغرافية الاستثمار، كنّا نتابع وقد عثر العاملون في المكان في “ايلة” الممتدة لأكثر من (4) الاف دونم هي مساحة المشروع الذي وجدوا فيه مدينة “ايلة” القديمة ،لقد كنت ذهبت قبل أن تضع دائرة الآثار يدها عليها، وبدأت اقرأ عنها بعد أن تكشفت عن مدينة حقيقية زارها سليمان الحكيم (النبي) الذي جاءها من اليمن، لأنه لم يكن إلا في اليمن فقط ، وكان مجيئه إلى ايلة في رحلة استكشافية وصلت الخليج “خليج ايلة” فقد كانت المدينة قائمة وقد إراد سليمان أن يصك فيها النقود، وقد وجد فيها مصنعا لصك العملات فقام كما تذكر بعض الروايات التاريخية بصك 400 دينار من الذهب ثم عاد إلى اليمن.. وقد كان في منطقة تهامة قريب باب المندب الذي يطل على هضبة الحبشة، حيث كانت بلقيس ملكة سبأ وملكة الحبشة أيضا، لأن الحبشة وسبأ كانتا جزئين لمملكة واحدة شرق البحر الأحمر وغربه، وكانت بلقيس واسمها عند الاحباش شيتا، وقد بنت تجارة مزدهرة ما لبثت إن ضعفت لمنافسة سليمان الحكيم لها في الجهة الشرقية من البحر الأحمر، ولذا قررت زيارته وعقد تحالف معه لترويج تجارتها فرحب بها.. وحين دخلت كان سليمان قد بنى صرحة (قصره) من الزجاج الذي تراه بلقيس لأول مرة فاعتقدته ماء، ولذا شمرت ثوبها وهي تعبر الردهة حتى لا يبتل، وفي الروايات التاريخية ان سليمان أبقاها لبضعة أيام.. وعقد معها اتفاقا ..
وأنها عادت من ضيافته حامل وأن حملها الذي وضعته في بلدها بعد عودتها كان طفلا اسمه (منلك) الأول والذي اصبح ولي عهد لها حتى إذا ما وصل سن الرشد طلبت منه والدته أن يزور والده و أن يتعلم منه الحكمة، وقد فعل وعاد ليحكم مملكة أكسوم الحبشية بعد وفاة أمه التي كانت تعبد الشمس، وما زالت أثار قصرها المكون من 43 غرفة، وكذلك المسلات المعجزة قائمة في أكسوم حتى اليوم، والتي مازالت ماثلة، وقد زرتها وصورتها لكتابي عن أثيوبيا بالعربية..
(منلك) حكم اثيوبيا وسليمان بقي يتاجر مع الصين ويجلب التوابل والبهارات والحرير والزجاج، وكذلك البخور من عُمان .
ونعود إلى أيلة وإلى حنا بن رؤبة أمير أيلة وقراها فقد ازدهرت في زمنه ايلة وكان هو أيضا يجلب لها الحرير والزجاج والتوابل والبخور من الجزيرة وخاصة من عُمان.. ويرسل اللبان العُماني الشهير إلى كنائس أوروبا في جنوة والبندقية عبر سيناء على الجمال إلى البحر المتوسط..
وكان حنا بن رؤبة هذا يستورد خشب الأرز ليبني السفن في ايلة وعنده أمهر البناة والصناعيين آنذاك كما كان في ايلة جيش من 360 شخصا حالماً أي “بالغاً”.
حنا هذا عاصر الرسول (ص) ولما توجه الرسول إلى تبوك في الغزوة المعروفة أرسل رسائل لكل حكام المنطقة آنذاك لكسرى ولهرقل ولمقوقس مصر وإلى حنا بن رؤبة فمنهم من أنكر رسالته ومنهم من قتل الشخص المرسل كما حدث مع شرحبيل بن عمرو الغساني الذ قتل الصحابي الحارث بن عمير الأزدي في عفرا بمنطقة الطفيلة ، وكذلك جرى رد من أرسل إلى هرقل أما الرسول الذي وصل إلى ايلة ليبلغ رسالة الرسول (ص) فقد عاد يحمل رسالة الاسقف ومنها :” إنا نراك في كتبنا” وهذا ما أسر الرسول وأبهجه فدعا الاسقف لزيارته في تبوك في حين رد مقوقس بأن أرسل للرسول(ص) جارية هي ماريا القبطية التي تزوجها الرسول(ص) وهي أم أولاده ,ارسل معها أختها نسرين وست رؤوس من الخيل هدية للرسول (ص).
حين وصلت دعوة الرسول إلى حنا بن رؤبة لزيارة الرسول في تبوك توجه إلى حيث معسكر الرسول ، فاستقبله بما يليق بالاسقف الذي بقي في ضيافته ثلاثة أيام رافقه خلالها بلال بن رباح وفي اليوم الثالث جلس الاسقف والرسول وكتبوا بينهم العهدة المحمدية لأهل أيلة وهي عهدة غاية في الأهمية ، إذ أنها تفوق في أهميتها العهدة العمرية لأن طرفها الرسول ، وقد كتبت بحضور علي بن ابي طالب وشرحبيل بن حسنة وصحابيان آخران ، وجاء فيها تحت عنوان (أمنة) أي أمان – وقد خاطب الرسول حنا باسمه
من محمد بن عبد الله الى حنا بن رؤبة تسلم هذه أمنة..
انت أمن في برك وبحرك ومن اويت من أهل الشام وأهل اليمن، فلا تمنعهم ماء يردونه أو طريقا يرودونه، ولله في ذمتي ما للمسلمين ، وقد وقعت عليها الأطراف الحاضرة علي بن ابي طالب وشرحبيل بن حسنة وعبادة بن الصامت بحضور الرسول وبقيت هذه العهدة سارية ، وقد وقعت عليها الأطراف حتى عام 93هـ في زمن عمر بن عبد عبد العزيز، وقد حفظت حقوق المسيحيين في جنوب الأردن وحمتهم في منطقة هي كارادور الفتح الإسلامي المتجه إلى الصين شرقا والأندلس غربا ، كما ان ايلة فيها كانت رمزا لتجميع أبناء الأمة من الشام شمالا واليمن جنوبا في العقبة حتى هي سرّة الجسم ونقطة اللقاء ، كما اظهرت عمقا من التسامح والمودة وأسلوب الخطاب..
ألقيت التحية على حنا بن رؤبة وعدت إلى مرافقي الحبيب الصديق منصور الكباريتي الذي صحبني في جولة مهمة ومؤثرة في ايلة..
لقد زرتها في أعياد الميلاد فسلام عليك يا حنا بن رؤبة، يا من امنت برسالة الرسول وصدقته، وعدت مسرورا من زيارته، والسلام على الصحابة الذين حضروا الاتفاقية.. سلام على الملك عبدالله الثاني صاحب مشروع العقبة كمنطقة اقتصادية خاصة، وعلى صبيح المصري صاحب مشروع ايلة الذي أحيا تاريخا وبنى حضارة وسياحة واقتصاد .. وسلام على سهل دودين الذي ما فتئ يقنعني بأهم مشروع على البحر الأحمر رغم إنني اقتنعت ويزيد بأن أزور لأرى..
هذه مقدمة تاريخية قد لا يكون البعض بحاجة إليها ولكنني أردت أن اضيء أي مكان هذا الذي ننعم فيه منتجع هو الأجمل على البحر الأحمر ، فالمكان يجمع ما بين التاريخ و اللحظة القائمة وينهض بالسياحة الأردنية على مساحة أكثر من أربعة الاف دونم تنوعت مكوناتها، وهذا ما سأتركه للكتابة عن ايلة الحديثة الأردنية التي أعيد اكتشافها لتكون محط اهتمام من يقرأ ومن يزور..
ايلة ممتدة من حنا بن رؤبة إلى الملك عبد الله الثاني في حضارات متعاقبة تسلم بعضها بعضا.. أنها مكان صك النقود الذهبية..