عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
لم يخرج الدكتور الراحل فايز الطراونة طوال العقود الستة التي عمل فيها في صلب الدولة الأردنية وفي مواقع قرارها عن فلك الدولة ومركز النظام السياسي فيها، فقد كان الطراونة مضرب مثل في أنه ملكي اكثر من الملك، وأنه دائما يستحضر حالة النظام السياسي الأردني حين يفكر على مستوى الأفراد والجماعة، ولذا فإن البعض ممن كانوا موافين باستعمال مصطلحات قوى الشد العكسي أو القوى التي تريد النظام على تقليديته، كانوا يحشرون الطراونة في هذه الزاوية التي لم يسبق انه نفاها أو أدعى غيرها ، فقد ظل الدكتور الطراونة يقدم نفسه على أنه أحد جنود النظام ومقاتليه السياسيين البواسل، وانه في دائرته ولا يحبذ أن يدعو للخروج عنه سواء كان يتحمس لبعض الأفكار أو لا يتحمس، فقد ظل دائما راضيا من حرمان نفسه من أن يجتهد بعيدا عن مقولات النظام ومصالحه المباشرة ..
وقد تحمل الطراونة جراء مواقف النظام التي تمسك بها دون مبررات كافية أحيانا الكثير الكثير كمرابط على “بوز المدفع” كما يقولون ، ويطاله التشهير الذي لم يطل غيره من القيادات في الصف الأول والتي بقيت تعرف من أين تأكل الكتف، وكيف يمكنها الهرب من استحقاقات الولاء حين يتعرض الولاء لهجمات قوية أو يمعن في تأكيد سياساته وسط التزاحم..
نعم استطيع أن أقول أن الطراونة كان في اليمين ولم يكن يعيبه أن ينعت بذلك ، فقد قلت له مرة باعتبارك يمينياً فابتسم ولم يكن عنده ردة فعل صاخبة أو قوية، بل شجعه ذلك أن يشرح لي لماذا يختار اليمين كمسرب يعكس فيه اتجاهاته ويتقن من خلاله تقدم رؤيته..
ولعل اكبر شاهد على عتبة فايز الطراونه في بنية النظام السياسي الأردني وتحديد موقعه فيه هي كتاب مذكراته الذي جرى الخلاف عليه، وقد اتهمت بأنني أحد من كتبوا نصوصه هو حين كان الكتاب في موقع تقييم سلبي، وحقيقة الأمر أنه لا علاقة لي بذلك، وقد يكون ذلك شرف لا أدعيه لو ان الرئيس الطراونة كلفني بذلك..
كنت على علاقة طيبة معه وكان يحترم رأيي ويدونه أيضا، وقد استمع إلى رأيي بشكل صاخب في جمعية الشؤون الدولية حين سألته أين تذهبون بالشكاوى التي تصلكم عبر موجات الربيع العربي لتحط في الديوان، ولم تعجبني الإجابة وحين أدرك ذلك دعاني للاستماع إلى التفاصيل إلى مكتبه في الديوان ..
وكان لمواقفه مني أثر في تحريض كثير من الصحفيين والكتاب حين كان يثني على ما اكتب او أتبنى من أفكار أمامهم حتى في غيابي، وكان ذلك سببا في اتخاذهم مواقف حاسدة مني كما يقول المتنبي: “وانت الذي سيرتهم لي حسدا”، فقد قال ذات يوم ما نقله موقع الحباشنة عنه إذ قال لمجموعة من الصحفيين والكتاب : “تعلموا مما يكتبه سلطان الحطاب وطريقته في الكتابة”، و إضاف صفات من المدح مما الهب حالة من التحريض التي لم اكن بحاجة إليها، ولكن الرجل كان أيضا ودودا ومخلصا للملك في تقريب المخلصين منه وانفتاحه عليهم، فقد كان سببا في مجالستي لجلالة الملك وأيضا في رعاية جلالته لاثنين من كتبي أحدهما عن المسجد الأقصى والآخر عن المقامات والأضرحة، ولم يكتف بوصول الكتابين بل علق عليها في حضور ملكي بهي، مما أسر الملك الذي أمر أن يطبع الكتابان باللغة الإنجليزية، و أن يوزعان على قائمة السفراء الأجانب في المملكة وسفاراتنا الأردنية في الخارج.. وما زالت اعتز بهذين الكتابين بشكل واضح ، واجدهما الأفضل، خاصة وإنني كتبت ما جرى من حوار لي مع جلالة الملك في مقدماتهما، كما ذكرت على أغلفتهما انهما خرجا للقراء برعاية ملكية ، ولولا ذلك لما خرجا..
واذكر إنني اخذت بنصيحة الدكتور فايز حين قال لي: “إن أردت أن تكتب على غلاف كتاب القدس وكتاب المقامات انهما برعاية الملك عبد الله الثاني فأكتب انهما برعاية من الديوان الملكي، إذ سيكون وقع ذلك أفضل لك”، فلم اجب وقلت: سآخذ بما تراه مناسبا ، فقال:” هذا أفضل، وبالفعل نفذت الطبعتان من الكتابين بعد صدورهما مباشرة، إذ جرى توزيعها مجانا شأن كتبي الأخرى ..
كنت قد عبرت للدكتور الطراونة عن عدم رضاي عن قانون الصوت الواحد، فقال لي: لماذا تريد أن تكون مثل بعض المسؤولين الكبار الذين يغيرون آرائهم كما يغيرون قمصانهم وأنا لا اخبرك هكذا، فقلت: لأنه يمكن كثير من القوى الاجتماعية والسياسية والعشائرية من ابتزاز النظام و الحصول على مكاسب ليست شرعية، وذكرت له بعض الأمثلة ، فقال:” يا حطاب العّيل اللّي ما يصرّخ أمه ما ترضعه” فأدركت فلسفة المرحلة وكيف يفكر بعض رجال النظام، كما أدركت مسألة المؤلفه قلوبهم، وفهمت لماذا انتصر معاوية وخسر علي بن أبي طالب ، كما أدركت أن بعض الصفقات السياسية ما يحيط بها تكون اكثر نجسة أحيانا..
لقد تحمل الطراونة عن النظام السياسي كثيرا، وتخصص في الجوانب السلبية ودافع عنها باستماتة دون أن يأخذ في ذلك لومة لائم، وسدد ما عليه من واجبات ومسؤوليات هرب الكثيرون منها واختبأوا عنها، وهذا سرّ احترامي له وإدراكي لمبدأيته في الإخلاص لما يعتقده، وقد حظي أن النظام ظل يحتضنه و يكرم مثواه وذكره وموقعه إلى آخر يوم في حياته، ولم يسمح للمغرضين بالنيل منه في كثير من المواقف التي تعرض لها غيره دون حماية كافية..
فايز الطراونة كان عقلا من عقول النظام و تجسيدا له في تجليات عديدة، ولذا كانت بعض المواقف السياسية تقاس بالقول على يمين فايز الطراونه وليس يسارها باعتباره مركزا.. أما المدرسة التي ينتمي إليها فهي المدرسة الملكية في خطها العريض، فهو لم يغضبها قط، وإذا كانت ثمة أسماء يجري ذكرها بعد ذكر اسم فايز من اعيان ونواب ومسؤولين كبار، فإن هؤلاء على قيمتهم لم يكونوا على اخلاصه وثباته وولائه للعرش والسياسات الأردنية التقليدية ..
بمناسبة رحيله نخسر شخصية وطنية اردنية عميقة الفكرة نابهة نحن بحاجة إليها، وقد رحلت في إحساسي مبكرة قبل أن ترى ثمار أعمالها ..
وندعو للراحل الكبير أن يتغمده الله برحمته وأن يسكنه جنته، وادعو كل من يريدون معرفة فايز الطراونة أن يعودوا لقراءة مذكراته وأن يتذكروا الكثير من مواقفه التي لن يغطيها الزمن..
فايز الطراونة رحيله خسارة وطنية كبيرة
11
المقالة السابقة