في بدايات انطلاقها، أعطت الدولة الأردنية أهتماماً خاصاً لقطاعين رئيسين الاول التعليم والثاني الأمن. وقد نجحت في ذلك بما يستحق الاعتزاز والثناء. ونحن اليوم وبانتهاء المئوية الأولى، غدونا امام أزمة بالغة الخطر والتعقيد تهدد الاقتصاد الوطني والبنية العمرانية للبلاد، وعليها يتوقف تقدم الدولة وازدهارها، مما يتطلب من الدولة التركيز على قطاع ثالث هو المياه، لتعمل عليه كما في قطاعي الأمن والتعليم.
صحيح أن المؤسسات المسؤولة عن المياه بذلت وتبذل أقصى الجهد في إدارة الشأن المائي، وتفعل كل ما تستطيع بإخلاص لايصال المياه الى المستهلك، سواء كان منزلياً أو زراعياً او صناعياً او سياحياً، ولكنها لا تحقق تطلعات وطموحات المواطن والاقتصاد الوطني، لان البلاد تعاني من فقر مائي كبير، وهي تجتهد في ادارة الفقر وليس في صنع ثروة تنهي حالة الفقر.
ودون الدخول في التفاصيل، فعندما يكون نصيب الفرد من المياه حوالي 80 مترا مكعبا سنويا، وخط الفقر المائي حسب المقاييس الدولية 1000 او حتى 500 متر مكعب سنويا للفرد، فمعنى ذلك ان الثروة المائية المتاحة ضئيلة جدا، ولا بديل عن زيادة المصادر واضافة كميات جديدة، وبالتالي عدم الاستغراق والاكتفاء بإدارة حالة الفقر. ورغم ان الكتابات والمذكرات والتقارير الوطنية والدولية كانت تحذر من هذه الأزمة وتبين خطورتها وضرورة الاستعداد لها منذ أكثر من ثلاثين عاما ، وضرورة العمل على ادخال مصادر جديدة للمياه، إلاّ أن الادارات كانت تركز على “ادارة الحالة” المائية، وتلجأ الى تهوين المسألة وتبسيط عواقبها، واعتبارها امراً عادياً. وفي نفس الوقت، تحلم دائماً بحلول ومشاريع ضخمة لحل الأزمة بالتعاون مع دول الاقليم، دون ان تمتلك حرية القرار بسبب تفكك الاقليم وعدم استقراره، ويسبب دور اسرائيل الاحتلالي العدواني، وصعوبة التمويل الاجنبي لضخامة المبالغ، وتهوين التمويل الوطني، وغياب الاستعداد للعمل السياسي والدبلوماسي اللازم خوفاً من توتر العلاقات هنا وهناك.
صحيح أن واحدة من المشكلات التي فاقمت الأزمة تتمثل في تدفق اللاجئين من الدول المجاورة و خاصة في العشرين سنة الماضية، إلا أن خصم 3.5 مليون لاجئ ومقيم يرفع نصيب الفرد من 80 إلى 118 مترا مكعبا في السنة، وهو رقم متواضع تماما.
بدأ تأثير التغيرات المناخية على الاردن تدريجياً حيث راحت تتراجع كميات الأمطار، ويتناقص عدد الأيام الماطرة حتى وصلنا اليوم الى مستوى 30 يوماً ماطراً من أصل فصل الشتاء البالغ 90 يوماً. أما السدود الترابية والحفائر ولدينا 400 منها، فغالباً ما يستهان بها، ولذا لم تعط الأهمية الكافية، رغم انخفاض كلفتها، وتوفر الامكانات الفنية والمالية لإنشائها، وقدرة سلاح الهندسة المتميز في الجيش العربي على التعامل معها بكفاءة واقتدار. أما مياه نهر الاردن فقد سرقتها اسرائيل بالكامل، وحولتها الى اراضيها المغتصبة، في حين لم تسمح سورية الشقيقة إلا بكميات قليلة جدا من مياه اليرموك، واقامت 42 سداً بحيث لم يعد يصل الاردن منها شيء يذكر. هذا واستنزف الاستهلاك المحلي حتى اليوم (10) من الاحواض المائية، وجفت (4) سدود كبيرة، ولم يبق سوى حوضين. وأضاعت الادارات وقتاً طويلاً تتحدث عن قناة البحرين في الوقت الذي تم تحذير الادارة منذ العام 1996 ان اسرائيل غير جادة في الحديث عنها ولا تريدها، لأنها تسعى ومنذ العام 1980 الى انشاء قناة من المتوسط الى البحر الميت في التوقيت الذي تريده. وذلك في اطار توجه استراتيجي غير معلن لوضع الاردن وفلسطين تحت رحمتها من خلال السيطرة على مياه البلدين.
ومع هذا، وخلال الاربعين سنة الماضية، تطورت علوم وتكنولوجيات المياه والطاقة في العالم بشكل هائل، كانت من نتائجه تخفيض كلفة إنتاج كل من المياه والطاقة المتجددة، وظهور تكنولوجيات جديدة في كل شيء، ولكن الحكومات تجاهلت جانب البحث العلمي والتطوير التكنولوجي للمياه انطلاقا من “ثقافة السلعة الجاهزة”. ولذا ما أن تم الإعلان عن عجز مائي حتى سارعت إلى شراء 50 مليون متر مكعب من إسرائيل التي تعتمد بشكل أساسي على تحلية مياه البحر منذ عام 1997.
وتتوجه الحكومة الآن لإنشاء الناقل الوطني باستطاعة 350 مليون متر مكعب سنوياً وسيكون جاهزا في عام 2026 او 2027 وبكلفة 2 مليار دينار كما صرح مصدر مسؤول في المياه. والسؤال خلال السنوات الخمس او الست القادمة اين سيصل الوضع المائي في البلاد؟ كم سيكون نصيب الفرد من المياه سنويا؟ كيف ستكون الزراعة؟ كيف ستكون مياه الشرب؟ كيف سيكون وضع القرى النائية والأطراف؟ إنها مخاطرة كبيرة. تلك أسئلة لا يجيب عليها مشروع واحد كبير مثل الناقل الوطني على أهميته. وإنما لا يحل مشكلة المياه في الاردن سوى الحلول التراكمية التي تحمل مصادر مائية اضافية مهما كان حجمها من أصغر المشاريع الى أكبرها.. وهذه الحلول تتطلب مشاريع زراعية واخرى صناعية وثالثة انشائية وهكذا. ومن حسن الحظ أن هناك تجارب دولية ناجحة في هذا المجال لا بد من الاستفادة منها وليس غض الطرف عنها. وعليه فإن اقتراباً مختلفاً يجب الدخول فيه فوراً و على مستوى الدولة وقبل فوات الأوان: الا وهو الصناعات المائية ليشتمل العمل فيها على كل ما له علاقة بالمياه.
واليوم هناك اكثر من 20 مدخلا للتعامل مع المياه تشمل: تحلية مياه البحر، والمياه الرمادية، واعادة تدوير المياه، وتخفيض استهلاك الزراعة من المياه من 52 % الى نصف هذا الرقم من خلال الزراعية المائية والزراعية الذكية والصناديق المائية، وتشجير الأراضي الصحراوية، وتعميم السلالات النباتية والحيوانية المقاومة للجفاف والحرارة، والحصاد المائي المنزلي وفي الجبال والوديان، واقامة الحفائر والسدود الترابية، وتوسعة السدود الحالية والإضافة إليها، والاستمطار، وتوليد الماء من الهواء، واصطياد الضباب، ووقف الهدر في الشبكات المائية، وتزويد المستهلكين بالقطع والأدوات الموفرة للمياه، واستخراج المياه من الأحواض العميقة والأحواض المشتركة مع الدول العربية المجاورة (السعودية و سورية والعراق).
وبالتالي، فإن الإفادة من هذه المداخل جميعها من شأنه ان يحدث تغييراً جذرياً في الوضع المائي للبلاد وبكلفة اقل وزمن أقصر.
وعليه فإن برنامجاً وطنياً وفورياً ينبغي القيام به بدعم من جميع المؤسسات والهيئات المتخصصة، ويشارك فيه العلماء والخبراء الاردنيون، وتركز كل جامعة على متابعة تكنولوجيا معينة لتحسينها او تطويرها وبالشراكة مع القطاع الخاص، و ربما في الاطار التالي: اولاً المباشرة في انشاء مشروع تحلية مياه البحر على البحر الاحمر باستطاعة 50م.م.م سنوياً وبكلفة لن تتجاوز 150 مليون دينار بتمويل من الحكومة، وبعد ذلك يباع كأسهم للمواطنين من خلال شركة مساهمة عامة يتم انشاؤها لهذه الغاية. علماً بأن 120 دولة تستعمل التحلية بما فيها دولة صغيرة مثل قبرص، واسرائيل حيث تنتج سنوياً 560 م م م سنوياً من 5 محطات ثانياً: انشاء شركة قابضة مملوكة للحكومة باسم “شركة الصناعات المائية” لتقيم الشركة القابضة شركات صناعية او زراعية او هندسية كشركات مساهمة عامة تشارك فيها المؤسسات الوطنية والمواطنين. ثالثاً: الاستعانة بخبرات الجيش العربي لانشاء سدود ترابية وحفائر بالتعاون مع المركز الجغرافي الملكي وبما لا يقل عن 20 سداً وحفيرة سنوياً. رابعاً: انشاء مركز متخصص للاستمطار بدعم من المركز الجغرافي الملكي وهيئة الارصاد الجوية والجيش مع الملاحظة ان تكنولوجيا الاستمطار اصبحت اقل كلفة باستخدام الطائرات المسيرة، وان 52 دولة تستخدم هذه التكنولوجيا خامساً: ادخال تكنولوجيا اصطياد الضباب وهي تكنولوجيا غير معقدة يمكن تنفيذها من خلال مركز الاستمطار وتستعملها دول كثيرة مثل جنوب افريقيا بل وارتيريا سادساً: توليد المياه من الهواء، وهي تكنولوجيا أصبحت متاحة في كل مكان بسبب انظمتها التي تعمل على الطاقة الشمسية. ويمكن لأي شركة صناعية تنتج الثلاجات والمكيفات ان تقوم بتصنيع الجهاز المطلوب والذي يلبي احتياجات المزارع الصغيرة والاماكن البعيدة والمنازل الريفية. سابعاً: انشاء مركز تكنولوجي متخصص في كل جامعة او أكثر لمتابعة التطورات وتحسين الأداء. ثامنا تعمل كليات الهندسة في الجامعات على إنشاء تخصصات في جانب من جوانب الهندسة والتكنولوجيا المائية. تاسعا:المبادرة إلى إرسال مجموعات صغيرة من خبراء إلى الدول التي تميزت بنجاحات في واحدة من التكنولوجيات المائية للإفادة و التعلم.
وأخيراً فإن المياه عماد من أعمدة الدولة، ومسألة حاضرة ومستقبلية دائمة ومتجددة، وتتطلب العمل الوطني العلمي التكنولوجي والتمويلي والسياسي والدبلوماسي المستمر. إن إدارة الفقر اجتهاد يستحق التقدير ولكنه لا يحل المشكلة.
الصناعات المائية.. ركن في الأمن الإستراتيجي د. ابراهيم بدران
4
المقالة السابقة