يغيب العرب عن السودان وهو يغرق في حضيض محنته، تماما مثلما فعلوا في معظم، إن لم نقل جميع، أزمات بلدانهم المفتوحة والممتد بعضها إلى عشرات السنين..
ففيما تتحول الخرطوم إلى قِبلة تتجه إليها الوفود الدولية والإقليمية، وحتى الإسرائيلية، لم نجد تحركاً عربياً واحداً، ذا مغزى، باستثناء زيارة ”رفع عتب“، متأخرة، لوفد ”غير رفيع“ من الجامعة العربية، وفيضٍ من البيانات والتصريحات الخجلة.
في الأسبوع الأول للأزمة التي استحدثها الانقلاب على مسار الانتقال المدني – الديمقراطي، اتخذ الاتحاد الأفريقي جملة من الإجراءات والمواقف الحاسمة السريعة: إدانة الانقلاب بوصفه رِدَةً على أهداف ثورة ديسمبر وطعنة لمسار الانتقال، علّق عضوية السودان في الاتحاد، وأرسل وفداً للوساطة بين أطراف النزاع، وهو الذي يعود له الفضل الأول في ”تسليك“ مسال انتقال السلطة، في الفترة من نيسان وحتى آب من العام 2019، حين توسط بين ”العسكر“ والمدنيين، وأنجز توافقاً وطنياً واسعاً حول الوثيقة الدستورية.
في المقابل، لا أحد يكاد يذكر التصريحات الصادرة عن الجامعة العربية وأمينها العام حول أحداث السودان، والتي بالكاد تخطت الدعوات لـ“ضبط النفس“ وتغليب المصلحة العليا والاحتكام للحوار، وغير ذلك من جمل وعبارات، تفادت تسمية الأشياء بأسمائها، وأخرجت المنتظم العربي الأرفع، من دائرة الفعل والتقرير..
اكتفت الجامعة ببيانها الهزيل وزيارة من باب ”لزوم ما لا يلزم“، ولم تكلف نفسها عناء الانخراط في جهود وساطة حقيقية وفعّالة… نجح الاتحاد الأفريقي أو يكاد، وتعيد الجامعة العربية إنتاج تجربة الفشل.
الموفد الأممي لا يكاد يتوقف عن الحركة بين مختلف الأفرقاء السودانيين، على أرضية موقف صلب غير متلعثم: دان الانقلاب وناصر الانتقال المدني الديمقراطي وتحرك بنشاط على خط استعادة قطار ديسمبر إلى سكته الصحيحة..
كذلك فعلت ”الترويكا“ المعنية بالسودان: الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، التي لا تكف عن بذل المساعي والجهود، سواء عبر سفرائها في الخرطوم، أو في المنتديات الدولية.
دولة جنوب السودان الفتية، لم تتوان بدورها عن إرسال موفد رئاسي للعاصمة السودانية، ناقلاً رسائل سلفاكير إلى أطراف النزاع، عارضاً التوسط لإنهاء الأزمة المقلقة لدولة الجنوب وشعبها، جوبا سبق لها أن احتضنت مفاوضات بين الفصائل المسلحة والخرطوم، انتهت إلى اتفاق حمل اسمها قبل عام تقريباً.
حتى إسرائيل، التي ”طبّعت“ حديثاً علاقاتها بالخرطوم، وغالباً من بوابة المكوّن العسكري، لم تجد غضاضة في إرسال وفد أمني رفيع للخرطوم؛ ما دفع بلينكن لحث غانتس على العمل لـ ”تليين“ مواقف البرهان – حميدتي.
الشاهد، أن أحداً من اللاعبين الإقليميين والدوليين لم يدّخر جهداً للمساعدة في إطفاء الحريق السوداني الذي يتهدد بالإجهاز على ما تبقى من أخضر السودان والكثير من يابسه، باستثناء العرب الذين أحالوا أوطانهم إلى ساحات لتسوية الصراعات الإقليمية، وسجلوا فشلاً ذريعاً ومتراكماً في بناء منظومتهم الإقليمية، وتركوا أمر أزماتهم المفتوحة للآخرين، لإطفائها تارة واستثمارها في تارات عديدة أخرى.
العرب الذين تُبدي غالبية حكوماتهم، تعاطفاً مضمراً، وأحياناً صريحاً، مع انقلاب 25 أكتوبر، لا يريدون التدخل، بل وتزعجهم تدخلات الآخرين التي تصب في صالح المكوّن المدني والانتقال الديمقراطي، مع أن ”عسكر“ السودان، لم يخفوا استعدادهم للتعاون مع كل شياطين الأرض للبقاء على رأس السلطة، من إسرائيل وحتى ”حزب البشير ورموز نظامه“ وبنيته ”الإسلاموية“ التحتية.
لا عقلانية وبعد نظر في السياسات العربية، ولا معايير مرجعية للنظام الإقليمي العربي يُحتَكَمُ لها، لذلك كله، نرى العالم العربي ما أن تُغلَقَ واحدةٌ من أزماته حتى تُفتح أخرى، أمس السودان، واليوم لبنان -السعودية وغداً المغرب – الجزائر.