عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
من قال إن العزلة المقصودة ضارة.. قد تكون خيارا وقد تكون قصرا ..لكن كيف يمكن البناء فيها واعمارها.. لو كانت العزلة ضارة لما اعتزل الغزالي ووضع كتاب ” المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال ” و لما اعتزل غيره، ولما اعتزل واصل بن عطاء مجالس الحسن البصري ليكون فرقة المعتزلة.. ولما اعتزل اصحاب الطرق الصوفية الناس، ولما اعتزل الرهبان والقساوسة، ولما اعتزل المفكرون والفلاسفة في خلواتهم ليصفوا تفكيرهم وتشحذ ارادتهم.. اليس الاعتكاف هو شكل او جزء من العزلة..
ماركيز صاحب رواية “مائة عام من العزلة” اختار الاسم للرواية دون ان يعتزل او يعزل ماديا، ولكنه كتب رواية عالمية جميلة.. قلد بعض اسمها الدكتور عاصم منصور مدير مركز الحسين للسرطان حين اسمى كتابه الجديد الذي هو اقرب للرواية ان لم يكن رواية واسماه “عامان من العزلة” وتجربته فيها عزلة قسرية اختارها الدكتور عاصم ليبني من خلالها روايته ويستقبل فيها احداث الرواية التي صنع خيوطها وصمم غزلها..
يلفت الانتباه ان كاتب الرواية هو طبيب و هذا امر عادي خاصة حين تستعرض الكثير من اسماء الادباء والروائيين المصريين الذين جاءوا من حقول الطب الى الرواية والشعر والادب وابدعوا وتفوقوا وتركوا بصمات واضحة..
اعود الى رواية “عام من العزلة “مآلات الجائحة” للدكتور عاصم منصور، وقد افرغها في عزلته، حيث قد لنا مذكرات طازجة عن تجربته والتي احسن صنعا في انه كتبها لتكسب قيمتها الكبيرة كونه طبيب اولاً، وكونه كتب عن جائحة الكرونا التي شغلت الناس وظلوا بحاجة الى المزيد من المعلومات عنها وعن اثرها وتقلباتها ومآلاتها..
تتمتع رواية الدكتور عاصم بسرد سلس وبلغة جميلة رفيعة المستوى، وهي لغة منتزعة من بيئة مثقفة عالمة باللغة وادابها ، إذ تربى الدكتور عاصم في بيت ادب وثقافة، فوالده هو “الشيخ حمزه منصور” القيادي في الحركة الاسلامية و مربي اجيال و عالم من العلماء في مجاله ..
والرواية جاءت على شكل مقالات ممهورة بتواريخ حين نشرها بشكل منتظم بدأها بمقالة “لقاء في باريس” وهي المقالة الاولى في الفصل الاول.. ليبني بعدها سبعة فصول انتهى اخرها بمقالة “الجائحة والاستثمار في الصحة” قبل ان يصل الى الخاتمة..
الكتاب وان تناول الكورونا كموضوع وفكرة اساسية، الى انه ليس كتابا في الطب، ولم يرغب ان يكون، ولكنه تحدث عنها “الكورونا” في ابعاد اجتماعية وانسانية ونفسية واقتصادية..
وقد جاءت مقدمة الدكتور ابو رمان محتفية بالكتاب ومضيئة لجوانب منه وهو الكتاب الذي لم يعدم في مقدماته الشكر لمن ساعد على ولادته أو صمم غلافه اوصلنا غلافه ولمن قدم الاستشارة وحتى الاهداء كان للوالدين الاب والام..
وحتى اقطع الشك باليقين وأوكد للقراء او الذين يترددون في اقتناء الكتاب انه ليس كتابا في الطب، فإنني قرأت فيه عن الانتخابات في زمن الوباء، و عن العملية التعليمية في ظل الجائحة وعن التمييز العنصري الوجه الاخر لكورونا، و الاخلاق في زمن كورونا..
بقي ان اقول ان مثل هذه الحبكة في رواية شبيهة مما كتبه الدكتور عاصم حين يكون الموضوع واحدا ربما يجعل الكاتب يكرر نفسه، لانه يسرد من موضوع ويغرف من اطار محدد هو الجائحة، ويلتزم زمنا مضطردا استغرق سنتين بلا انقطاع ، وهي رفعة الراوية الزمنية وامتدادها.. ولكن الدكتور عاصم نجى من هذا العرض وفاز بدقة التواصل والتراكم والتنوع في الموضوع، حتى تشعب مع الكورونا في نواحي عديدة من حياة المجتمع قبل الكورونا ومن خلالها وبعد ان هدأت موجتها..
كتبها بعناية في تقديم المعلومات والوقائع التي تدفقت بانتظام، حتى غدت فريدة من نوعها في موضوعها على المستوى الوطني، فقليلون هم الذين يكتبون وقائع مرضهم او تجارب معنية يعيشها الناس فينفرد كاتب يتناولها بصيغة فنية ..
ستتربع رواية – اذا جاز أن تأخذ هذا الاسم بين الانواع الادبية- على ارفف لفترة قد تطول، وقد تصبح اهميتها في العودة اليها بعد سنوات، ليجد القارئ كيف عاش مجتمعنا تحت وطأة الكورونا.
تمتعت بالقراءة لرواية الدكتور عاصم منصور بنفس المتعة التي قرأت فيها “يوميات حصار في زمن نابليون” في وثائق المحاكم الشرعية في القدس، وبنفس متعة قراءتي لوقائع من تاريخ الجبرتي الذي كان يهتم بالوقائع اليومية في الايام الخاصة، او عن الوقائع النادرة او المذهلة وهو ما نحتاج اليه في تاريخنا الذي يفتقر للكتابة عن الوقائع المباشرة في حينه..