ليس جديدا الحديث عن ملامح نظام دولي جديد بدأ يتشكل على الخريطة الدولية، وهكذا هو حال العالم وتغيراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فخلال القرن الماضي حدثت تحولات عالمية كبرى رسمت خريطة جديدة للعالم، فالحرب العالمية الأولى أزاحت عددا من الامبراطوريات مثل الامبراطورية العثمانية والنمساوية، وشكلت نظاما دوليا جديدا بوجود عصبة الأمم، ولم يستمر هذا النظام طويلا لتقوم الحرب العالمية الثانية، ويبزغ من بعدها نظام آخر تسيدته الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مع وجود منظمة دولية أخرى تأسست في عام ١٩٤٥م (هيئة الأمم المتحدة). ورغم أن الدول التي خسرت الحرب العالمية عادت إلى الواجهة الدولية من جديد بعد عقدين تقريبا، وهو جانب إيجابي للنظام الدولي الجديد، بل أسهمت تلك الدول (ألمانيا ـ اليابان) في البناء الحضاري العالمي، إلا أن قطبي النظام العالمي الجديد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي انخرطا في سباق التسلح والحرب الباردة والتي انتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١م وتربع الولايات المتحدة على الصدارة العالمية، إلا أن الوريث الشرعي للقطب السوفييتي لم يغب طويلا عن المنافسة العالمية وعاد سريعا للواجهة مع بقاء الولايات المتحدة الأميركية القطب العالمي الواحد خلال العقدين الماضيين من القرن الحادي والعشرين. ولكن بدت ملامح التراجع للولايات المتحدة تظهر على الهيمنة الأميركية، في ظل تصاعد قوى عالمية أخرى أبرزها التنين الصيني الذي أجمع المراقبون على صعوده، بل وتبوُّئه الصدارة العالمية خلال العقود القادمة، وإن كان التغيير يسير على وتيرة بطيئة، لكن هناك إجماعا أن الصين هي القوة العظمى القادمة في العالم، وملامح صعودها بدت واضحة في الميزان التجاري العالمي وانطلاقتها الواسعة التي لا يمكن إيقافها، وهو ما يجمع عليه كثير من المراقبين. ولا يختلف هؤلاء المفكرون على أن نظاما عالميا جديدا آخذ في التشكل، والاختلاف فقط حول آلياته وتداعياته المستقبلية التي لا يمكن الجزم بها قطعا .
هناك نظريات مختلفة قدمها المفكرون والأكاديميون أولها الفكرة الواقعية الهجومية وهي الصدام بين الولايات والصين، والأخرى التي يتبناها دعاة الليبرالية التعاونية والتي تقوم على أن المنافسة قائمة والصعود الصيني واقع فرض نفسه، ولكن النظام الجديد يختلف نسبيا عن النظام العالمي بعد الحرب العالمية الأولى الذي تلاشى بعده عدد من الامبراطوريات العالمية، فيرى بعض دعاة هذه النظرة أن النظام العالمي الجديد لن يقوم على أنقاض المهزوم، بل سيفرز حالة تعاون عالمي بين هذه الأقطاب الدولية، ولذلك لا يمكن القطع بأي النظريتين سيتولد هذا النظام الجديد .
الانسحاب الأميركي من أفغانستان يعد أبرز عناوين هذه التحولات الاستراتيجية، كما سيعد نقطة فاصلة في التاريخ؛ باعتبار أفغانستان النقطة التي تفصل بين شرق وغرب القارة وهي امتداد للشرق الأوسط، وهذا الانسحاب يُعد مؤشرا بارزا للتراجع الأميركي، إضافة إلى تراجعات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية أخرى لم تعد خافية وإن كانت تسير ببطء. ولا شك أن التراجع الأميركي يفسح المجال لتحركات دولية منافسة سوف يستثمره المتنافسون الأبرز روسيا والصين، وقد اتضح ذلك من خلال التمدد الاقتصادي والاستثماري للصين، نذكر منها ـ على سبيل المثال ـ انخراط الصين في اتفاقيات استراتيجية في القارة الإفريقية، وكذلك اتفاقيتها الاستراتيجية مع إيران، مما يعزز هذه الانطلاقة الدولية، بالمقابل فإن السياسة الروسية أيضا تشق طريقها في مناطق نفوذها التقليدية وفي شرق القارة الآسيوية وأثبتت حضورها القوي في شبه جزيرة القرم وفي سوريا أيضا، مع الإشارة إلى أهمية التحالف الاستراتيجي الذي تبنيه كل من روسيا والصين كمحور سياسي عسكري اقتصادي في المحيط الهادئ والهندي. وتُعد مجموعة (البريكس) إحدى أهم المجموعات الدولية التي تضم قوى دولية صاعدة بقوة (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) وهذه العناوين كلها تبشر بملامح صعود وعودة للشرق على حساب تراجع القوة الغربية الأميركية التي بدت هيمنتها العالمية تتقلص تدريجيا .
هناك محاور وتحالفات دولية تلوح على الخريطة الدولية، وهي محاور ـ بلا شك ـ متنافسة ومتصارعة، أحدها المحور الشرقي الذي يشكله أقطاب دولية صاعدة بقيادة الصين وروسيا وهما يحملان نفس الصفات الفكرية والعقائدية، بينما ينشط على المحور الآخر الحراك الدولي للتحالف الإبراهيمي الذي ترسم خطوطه الولايات المتحدة مع كيان الاحتلال الصهيوني ليشمل تركيا وعددا من الأقطار العربية، وهذا التحالف بطبيعته الفكرية والعقائدية يتواءم مع مشروع إسرائيل الكبرى وقد لا يمثل تحالفا مرشحا لموازاة التحالف الصيني الروسي مع دول شرق آسيا، إلا أن هذا التحالف الإبراهيمي مهيَّأ بطبيعته ليضم القارة الأوروبية أيضا في سياق التحالفات الاستراتيجية، مع العلم أن الاتحاد الأوروبي مؤهل ومهيأ لتشكيل قطب عالمي مستقل عن أي تحالفات أخرى، كما أن حقائق التاريخ تؤكد أن أوروبا مارست سياساتها ككتلة واحدة في مراحل متعددة من التاريخ، ولا شك أن الخصائص الدينية والثقافية ستضع أوروبا في خانة هذا التحالف الدولي الرأسمالي، حيث لا يمكن لأوروبا أن تحيد عن هذه الخلفية التاريخية والثقافية والدينية .
ما يهمنا في الوطن العربي هو قراءة هذه المتغيرات العالمية وصياغة علاقات دولية قادرة على استشراف المستقبل، ورسم علاقاتها وفقا للمصالح الاستراتيجية والاستدارة نحو الشرق مبكرا على غرار ما تقوم به القوى الإقليمية المجاورة للوطن العربي، حيث إن التأخر في رسم مثل هذه التحالفات الاستراتيجية قد يفقد العرب فرصة تاريخية في عالم يسوده التحولات الاستراتيجية ويميل نحو التعددية القطبية، ويظل الوطن العربي كمنطقة مستقلة تاريخيا وجغرافيا وثقافيا غير قابل للاعراب شرقا أو غربا لنفس الاعتبارات السياسية والثقافية والدينية والتاريخية والجغرافية، وهنا فإن تقدير المصالح الاستراتيجية تفرض نفسها على العرب لرسم تحالفاتهم الدولية في عالم تسوده التكتلات ويستقبل ولادة نظام دولي جديد على العرب أن يصوغوا علاقاتهم الدولية وفقا لمصالحهم الاستراتيجية، ولا يكون المشرق العربي ساحة لتصفية الحسابات بين هذه القوى والمحاور والأحلاف الدولية .