عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
سلام عليك .. سلام عليك يا “عبد الهادي”.. سلام عليك يا “أبا سهل” .. سلام الدارين .. الدار التي ملأتها وكنت فيها قائداً لم يكذب أهله.. والدار التي انت فيها وقد جاء من أهلك واصدقائك ومعارفك من يسلم على روحك التي ترفرف الآن فوقنا، ويفي بواجب الوداع حين لم يستطع الكثيرون ان يودعوك، وقد اختطفك الموت على عجل ولم يمهلك لتودعهم..
نزور ضريحك اليوم .. ونحيي ذكرك فينا وانت لم تغب، فنذكر فيك المروءة المعروفة والشهامة والمبادرة والنخوة، و حبك لوطنك وحرصك عليه، فقد جرى اختبارك اكثر من مرة، وكنت في كل مرة تحتضن الوطن وتفوز به ويفوز بك، فتلفت الانتباه انك لم تخذله في كل المنعطفات والمنحنيات ، وقد يكون من ذلك سبب زيارتنا لك.. “ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر” و حين تمتحن الاوطان تصمد الرجال وتكابد وتستبسل حتى لا يتسرب الوطن من بين ايديها ، وحتى لا يعبث به عابث او يصادره طامع..
يا “عبد الهادي” عن اي المحطات نتحدث معك اليوم.. عن محطة الجندية التي اخلصت لها وكنت فيها نموذجا ورمزاً في المناقبية العالية، فاحتضنتك وسلمتك الذرى ، حتى اصبحت رئيس الاركان الذي لم يعرف أحد سواه ما عرفت من الدورات، ودقة التدريب وعلو التقدير من القادة العرب والاجانب الذين شهدوا نفس الفرص او طمعوا في ان يكون لهم المكان الافضل في الجندية..
ام نتحدث عن الحياة المدنية الغنية التي عشتها في موقع القائد، ففي الجندية حملت شعار الجيش العربي و في الامن العام، وكان لك بصمات فيهما، فقد عرفتك العسكرية محترفا صاحب رؤية وبصيرة، وكان جنودك واتباعك في المراتب التي كنت فيها ينظرون لك كقائد و كبان، حتى اذا ما جئت الى الامن العام ارسيت تقاليد جديدة من احترام المنتسب لجهاز الامن العام ، وايضا من احترام المواطن وجعل الشرطة في خدمة الشعب، بعد ان زودت الجهاز باحسن انواع التكنولوجيا وارتبط تطويره باسمك، وكنت قد اشدت في زمنك نظام التتبع والسيطرة..
ام نتحدث عن حياتك المدنية التي انخرطت فيها دبلوماسيا سياسيا، بدأت من قمة الدبلوماسية سفيرا في الولايات المتحدة، فكنت قد جمعت الاصدقاء للاردن وبصرت القادة الامريكيين بأهميته ودوره و ضرورة الوقوف معه باعتباره شريكا وحجر زاوية في سلام المنطقة واستقرارها وتنميتها..
الذين كادوا لك يومها و لم يعجبهم قدرتك على تجنيد الاصدقاء هناك للاردن سعوا لايقافك، فقد ظل انتسابهم للاردن انتساب المنتفع المنفذ لاجندة محددة تحول بين الاردن وبين قياداته الحقيقية التي تفتديه..
في الولايات المتحدة عرفت الادارات الامريكية عن الاردن الكثير في زمن سفارتك ،وكانت العلاقات قد بلغت ذروتها، ويومها طالبت بالتعامل مع مبادرة “ريغان” وخالفت الاخرين في ذلك، فقد كنت تقرأ غير قراءتهم وترى غير رؤيتهم، وكان الراحل الحسين يوافقك الرؤية ويقول لك:” ارسل حكيما ولا توصه”.. وكان يريدك للصعب من الاشياء ولتذليل العقبات ووضع الاردن حيث يجب ان يكون..
كنت ترى ان الاردن لا يتطور الا بالحزبية وتوسيع المشاركة ،وكنت تجاهر بذلك وكان ذلك يجلب لك المتاعب والشغب على موقفك، ومحاولة النيل من شخصيتك، وبلغ بك التفكير حد المطالبة بتداول السلطة في الحكومة، وان يكون رئيس الوزراء منتخبا وان تشكل الحكومات البرلمانية ، كنت قد ادركت ذلك مبكرا وكنت ترى أن تحقيق ذلك لا يتم الا ببناء الحزبية الوطنية المخلصة.. فقمت بذلك واقمت الحزب وانفقت في سبيل ذلك الجهد والمال، وحرصت على المشاركة، ولم تنتظر أو تكتفي بالتنظير، لذلك وحين رأوك جادً وضعوا العصي في دواليب الحزب و اجبروك على المغادرة حزينا، وكأنك تلوم نفسك، فهم ليسوا أم المولود ليغضبوا وليس من زرع لينتظر الحصاد..
ففي كل المهمات الكبيرة والصعبة التي حملتها ، كنت موقع الثقة ، وكنت دائما تجسد توجهات القيادة الهاشمية في عهد المملكة الثالثة بقيادة الراحل الحسين، والمملكة الرابعة بقيادة الملك عبدالله الثاني أعز الله ملكه.. كنت وفياً للعهد، ولم تكن أبداً تؤمن بالخلاف على الوطن ، وإن كنت ترى امكانية الخلاف من أجل الوطن لتظل المسيرة صاعدة ونظيفة وقوية.. وهذا الايمان أعطاك ميزة أنك بقيت مع وطنك دائماً ومع قيادتك دائماً، مع هذه المسيرة التي تحدونا جميعاً ونحن جميعا في المجالي وكل من أحبوك وأقروا بدورك وفضلك مع قيادة هذه المسيرة دائماً..
يا عبد الهادي لم تترك طريقاً يوصلك إلى خدمة وطنك إلا وسلكته، فقد ذهبت إلى صناديق الاقتراع التي آمنت بها وسيلة للصعود فكنت النائب المثابر الذي حمل الهم الوطني، وكان لك من التأييد وحجم الكتلة البرلمانية ما كان يسرك ويغيظ خصومك، وكنت تدعو إلى كلمة سواء وإلى رص الصفوف.
و كان البرلمان يكافئك على ذلك ويحملك الي سدته لتكون رئيسه لدورات ولسنوات طويلة، لم يبلغها غيرك وقد أدرته بحكمة واقتدار، و اكسبته المهابة والجدية وحسن الاداء، وعملت على التطوير واحداث صيغ جديدة حتى وان لم تحقق ما كنت تصبو اليه..
ثم انخرطت في العمل التنفيذي فكنت في حكومة الرئيس عبد الكريم الكباريتي ذراعه الاساسية وزيرا للاشغال، وقد رأيت ما رأيت و لم تصمت، و عرفت كيف يجري تشويه العمل العام ومستلزمات تنظيفه وتفعيله ، وعدم تركه وكأنه غطاء للبطالة..
كنت تريد الاردن افقا مفتوحا على امته، وتريد الامة ظهيرا للاردن، لأنك كنت تدرك دكتاتورية الجغرافيا الاردنية وصعوبتها ومخاطر ان يقابلها عدو لا يؤمن بسلام ،وانه لا بد من الحذر في مواجهته واستمرار التتبع لخطته ..
فالامة هي جدار الاردن الحامي الذي يستند اليه، ولذا لابد من الحفاظ على العمق الذي كنت تراة في دول الجوار اولا.. وخاصة في العراق، وقد دعت نخوتك ان جمعت البرلمان الاردني والعراقي على ارض العراق وفي منطقة الحدود حين كان ذلك محرما امريكيا، وقد فتح ذلك عليك بابا لم تتوقع فتحه، فقد كان محرما ان يكون العراق قويا او حتى عربيا، وقد صدقت توقعاتك فقد اسقط العراق من يد ابناءه وامته وترك هكذا لما تعيش الان، ولو ادركوا موقفك المبكر لما كان عزله ولما كان الانفراد به، وهو نفس الموقف الذي ادركه الملك الراحل حين دعا الى حل عربي والى حماية العراق، وعدم انسياق النظام العربي ليكون اداة تدميره …
كنت مع فلسطين.. وقد جسدت ذلك عملا حين أسريت اليها بنفسك، فزرتها الزيارة المشهورة التي اغاظت العدو الذي حاول منعك وقام بالاعتداء عليك، حين كنت تصحب مجموعة من السادة النواب لتؤكد للشعب الفلسطيني اننا لن نتخلى عنه وعن قضيته، وانه سيظل فينا الى يوم استقلاله، كنت في القدس وقد زرتها بطريقتك ودخلتها وخرجت دون استئذان جنود الاحتلال، اما في الخليل فهناك حكاية اخرى حين حملك الفلسطينييون على اكتافهم بعيدا عن يد جنود الاحتلال التي حاولت الامتداد اليك ، لانك اصبت عصب الاحتلال باصرارك على الدخول على الحرم الابراهيمي الذي اغتصبوه.
يا عبد الهادي.. يا أبا سهل ..تركتنا ونحن اشد حاجة اليك، ولولا ان المرض اقعدك لكان لدورك شأنا اخر، وكما يقول الامام علي بن ابي طالب: ” لا يقهر الرجال إلا المرض” ومع ذلك بقيت تحمل الاردن في نفسك اولوية لا تشبهها اي اولوية اخرى..
لقد حاول خصومك تشويهك و لكن الله غالب على امره ولو كره الكاذبون او المنافقون او المغرضون، فقد رحلت مديونا ولم تكن مليارديرا كما اتهموا وظنوا ولفقوا، ولكنك رحلت قرير العين حتى وانت تقول “معيش” فقد كنت صادقا..
اليوم يأتي أهلك و اصدقائك ومعارفك ووراءنا كل الاردنيين ومن عرف فضل عملك من العرب في برلماناتهم واحزابهم ومنظماتهم لنحيي ذكراك ونقول: بلدنا بحاجة الى امثالك والى ذكراك والى ما عملت وما دعوت اليه .. ومجيئنا نموذج يجب ان يتكرر في دعوتنا للمخلصين لنواصل السير علي دروبهم، فالاردن يفتقر لمثلك ويرى انك كنت ابنه الوفي والرائد الذي لا يكذب اهله، وستبقى يا عبد الهادي المجالي علما .. وستبقى اجيال عدة تذكرك فتذكر فيك الوطني المخلص الصادق المحب لأهله ووطنه..
فنم قرير العين فلن تعدم الاردنيات من ابنائهن من سيسير على نفس الطريق..