بداية نرجو لطلبتنا الذين قدموا امتحاناتهم النجاح والتوفيق. خلال الثلاثين سنة الماضية وقعت تحولات اجتماعية وتعليمية واقتصادية عميقة غيرت من نجاعة امتحان الثانوية العامة (التوجيهي) بشكله الحالي لأسباب موضوعية، لا بد من مراعاتها عند النظر إلى المستقبل.
إذ ارتفع عدد الطلاب المتقدمين للامتحان من 60 ألفا العام 1980 الى 100 ألف العام 1990 الى 150 ألفا العام 2000 الى 175 ألفا العام 2010 و200 ألف طالب وطالبة العام 2021. وخلال 5 سنوات سيكون العدد ربع مليون متقدم للامتحان. أصبح التعليم الجامعي هدفا أساسيا لأكثر من 80 % من الطلبة وعائلاتهم والتي هي من ينفق على التعليم.
ومع هذا الارتفاع ازداد الطلب على المقاعد الجامعية ليصل عدد الطلاب الجامعيين العام 2020 مايقرب من 300 ألف طالب وطالبة. وغدت علامة امتحان التوجيهي وأعداد الطلبة المنافسين الفعليين أو الشكليين هي المرجع الوحيد لتحديد الجامعة الرسمية والتخصص الجامعي الذي يقرره مكتب التنسيق ليلتحق به الطالب.
هذا، بغض النظر عن ميول الطالب ورغبته وقدراته. وقد ترتب على هذه المسيرة نتائج خطيرة تستدعي التصحيح وعلى النحو التالي:
أولا: أصبح التوجيهي معركة نفسية معقدة ومرهقة للجزء الأكبر من الطلبة وذويهم.
ثانيا: تخرج مئات الآلاف من الشباب والشابات ممن التحقوا بتخصصات لا يرغبونها، بكل ما يعني ذلك من تقلص فرص العمل وضآلة إمكانات التميز والإبداع، والأثر الاقتصادي السلبي بالتبعية، وتخفيض كفاءة المؤسسات، وتفاقم البطالة بين الجامعيين.
ثالثا: وبسبب الضغوط الاجتماعية، ازدحمت معظم الجامعات الرسمية بالطلبة بشكل يفوق طاقتها الاستيعابية بكل التأثير السلبي على النوعية في التعليم وفي بناء وصقل شخصية الطالب، وتمكينه من المهارات المطلوبة.
رابعا: تم استحداث البرنامج الموازي، والذي يعطي الفرصة الأفضل لمن لديه المال، خلافا لنصوص الدستور التي تساوي بين الأردنيين، وخلافا للإستراتيجية الوطنية لتنمية القوى البشرية.
وقبيل أسابيع قليلة من امتحان التوجيهي يسود التوتر والقلق مفاصل كثيرة في الدولة، ابتداء بالمجتمع وانتهاء بالإدارة، وتستتبعه حالة من الاستنفار في وزارة التربية والتعليم، وفترة استعداد وتأهب من الداخلية والأمن العام.. فالطالب لا يعرف كيف ستتجه بوصلة مستقبله، والعائلات تريد ان تطمئن على أداء أبنائهم وبناتهم، والمعلمون والمعلمات في المدارس يتابعون علامات طلبتهم ولمدة شهرين او ثلاثة أشهر، والجامعات لا تعرف كم ستقبل من الطلبة بناء على توجه الحكومة، والجميع في حالة انتظار.
ثم تبدأ مسألة القبول بالجامعات بكل تفاصيلها وتعقيداتها ومفاجآتها، وخاصة للجزء الأكبر من الطلبة الذي لا يحصّل مقعدا رسميا، أو لا يدخل التخصص الذي يتطلع إليه، وهذا يشمل أكثر من 55 % من الطلبة تقريباً. بكل ما يترتب على سوء الاختيار من اضرار نفسية ومهنية كبيرة.
ولا تتحقق الأحلام في المهنة المطلوبة الاّ لقلة من المتفوقين الذين بذلوا من الجهد ما يستحقون بعده احسن الجزاء. وتتكرر الصورة بكل حركيتها وانفعالاتها وتراكماتها كل عام. هذه الأزمات والتوترات والتوقعات والاحباطات لا تحدث في الدول المتقدمة وخارج المنطقة العربية.
فالطلبة هناك يؤدون امتحاناتهم بهدوء، ويختارون التخصصات الجامعية التي يرغبون فيها، والمهنة التي يطمحون اليها من خلال انظمة تعليم وقبول في الجامعات مستقرة وعالية المرونة، وبرامج تمويل ناجعة للتعليم، وبدون تدخل الحكومة. وتكمن نقاط الضعف المفصلية في التوجيهي اليوم في عوامل رئيسة هي:
الأول: ان الطلبة ولأسباب اقتصادية واضحة يريدون الجامعات الرسمية حيث الرسوم الجامعية متواضعة تماما، في حين أن المقاعد الجامعية في الجامعات الرسمية محدودة ولا تتجاوز 50 ألف مقعد اذا كان هناك التزام بالمعايير التعليمية الصحيحة. هذا بينما المطلوب سنوياً 100 ألف مقعد بالمتوسط.
الثاني: ان التنافس على المقعد الجامعي بالغ الشدة، لأن أكثر من %60 من المقاعد المتاحة في الجامعات الرسمية تذهب للتخصيصات والموازي والمكرمات، ناهيك عن الأعداد الكبيرة التي تتقدم لدخول الجامعات.
الثالث: ان التحصيل العلمي لدى الطالب على مدى 12 عاماً يراد قياسه من خلال مجموعة من الأسئلة دون الأخذ بعين الاعتبار الأداء المدرسي.
الرابع: ان الامتحان الذي يمتد لساعتين او ثلاث ساعات ولا شيء آخر سوف يحدد مصير الطالب ومستقبله المهني في معظم الحالات، من جهة، والعبء الاقتصادي على الأسرة من جهة ثانية.
الخامس: إن النمط الحالي للتوجيهي صرف الطلبة عن الاهتمام بالمدرسة وبالمعلم، وخاصة في السنتين الاخيرتين.
السادس: ارتفاع تكاليف الامتحان على الوزارة وعلى الطلبة. فالامتحان يكلف الخزينة أكثر من 40 مليون دينار بين مكافآت وتكاليف اعداد ومواد مختلفة ويكلف الاهالي مبالغ كبيرة لأن الجزء الأكبر ربما (حسب تقديرنا) 70 % من الطلبة يلجأون الى المدرسين الخصوصيين والمراكز الثقافية التي تكلف الطالب الواحد مئات الدنانير. وبكلفة اجمالية ربما تتعدى 45 مليون دينار يدفعها الاهالي اضطراراً.
ولهذا فإن أزمة التوجيهي بجوانبها المتعددة لا يمكن مواجهتها إلا اذا تمت المعالجة الجذرية للعوامل اعلاه ليخرج الجميع فيها كاسباً وليس خاسراً. فالأعداد الضخمة لا يمكن التعامل معها بنفس الطريقة والاسلوب الذي كان سائدا قبل 50 عاماً حين كان العدد ضئيلاً والوعي بالمستقبل الوظيفي بسيطاً والتنافس الوطني والدولي محدوداً. هذا اضافة الى الخسائر المعنوية للمدرسة وللمعلمين بسبب انصراف الطلبة إلى الخصوصي.
ومع التأكيد على ان امتحاناً عاماً مثل التوجيهي يبقى ضرورياً وليس المطلوب الغاءه، إلاّ ان بنية الامتحان وطريقة القبول في الجامعات يجب ان تتغير حتى يتسنى للجميع الخروج من الأزمة، والانتقال الى مرحلة جديدة، بما فيها الخلاص من التخصصات الراكدة والبطالة المرتفعة بين خريجي الجامعات.
إن التغيير المطلوب تقع مسؤوليته على وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي والجامعات. وهذا يتطلب: أولاً: يتم الاتفاق على تقسيم العلامات التي يدخل الطالب بموجبها الجامعة الى 3 أقسام 50 علامة للامتحان النهائي (التوجيهي) نفسه، و15 علامة تضعها المدرسة للصف الحادي عشر، و15 علامة للصف الثاني عشر، وتبقى 20 علامة “لامتحان قدرات” تضعه الجامعة أو مركز متخصص، حسب التخصص الذي يرغب فيه الطالب. وبذلك يصبح الاجتهاد في المدرسة له وزن كبير، واختيار التخصص الملائم لقدرات الطالب له وزن. الأمر الذي يصحح أي خلل غير متوقع في الامتحان النهائي.
ان اللعب والتضخيم لعلامات المدرسة فيمكن أن يعالج بمعادلات رياضية بسيطة، وفي نفس الوقت فإن الامتحان العام يكشف وضع المدرسة على حقيقتها.
ثانياً: يتم الغاء تفرعات الادبي والعلمي وغيرها ويدرس الطلبة جميع العلوم لأن العقل العلمي هو اساس المستقبل، والعلوم الاساسية اصبحت ضرورية للمهارات التي على الطالب اكتسابها.
ثالثاً: يقدم الطالب امتحان التوجيهي في 6 مواد فقط أربعة اساسية وهي اللغة العربية واللغة الانجليزية والرياضيات والثقافة الوطنية ومادتان يختارهما الطالب حسب رغبته في التخصص في الجامعة. فمن يريد الكليات العلمية يختار مادتين علميتين ذات علاقة ومن يريد الانسانيات يختار مادتين انسانيتين.
رابعاً: تلتزم وزارة التعليم العالي والجامعات بتنفيذ ما جاء في الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية لعام 2016 والتي تقرر فيها الغاء الموازي على مدى خمس سنوات نظراً لعدم دستوريته.
إن تغيير بنية الامتحان أصبحت ضرورة اقتصادية اجتماعية مؤسسية وتعليمية. ويمكن أن يتم ذلك بالتدريج وعلى مدى خطة مستقرة مداها 5 سنوات، وبذا تصبح بوابة المستقبل أكثر اتساعا.