تحفل المنصات الافتراضية العربية هذه الأيام، بجدل واسع حول غياب “القطب الثالث” في المجتمعات العربية، وينصرف النقاش تلقائياً إلى قضية تآكل دور اليسار ونفوذه، بعد أن ملأ الأرض والفضاء ذات مرحلة، وباعتباره الجهة المطالبة أكثر من غيرها، بتولي مهمة تكوين هذا “القطب”، والسهر على ضمان استقلاليته سواء عن “الإسلام السياسي” أو “الدولة العميقة” بمختلف تجلياتها وتمظهراتها.
وتتأسس الحاجة لاستنهاض “قطب ثالث”، والتي تبدو ملحّة بنظر كثيرين، على حاجة أكثر إلحاحاً وتتصل بتجاوز “الاستعصاء الديمقراطي” في العديد من دولنا العربية…بيد أنها تأخذ أشكالاً ومظاهر تختلف باختلاف السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية لهذه البلدان…في دول السلالات والجنرالات، يبدو الاستقطاب واضحاً بين “دولة عميقة” وإسلام سياسي مازال حاضراً بقوة على الرغم مما لحق به من ضربات وهزائم في السنوات السبع الفائتة…أما في دول الأقوام والطوائف والمذاهب، كما هو الحال في لبنان والعراق، فإن الحاجة لهذا القطب تتولد من الحاجة لشق مجرى عابر لهذه الهويات الفرعية وما يترتب عليها من محاصصات قاتلة…وفي الدول التي تتغلب فيها البنى العشائرية والقبلية السابقة للدولة، فإن فكرة القطب الثالث، تبدو تأسيسية لجهة خلق بنية تحتية لدولة مدنية، تقوم على المواطنة المتساوية والفاعلة، تحترم قيم الحرية والديمقراطية ومنظومة حقوق الانسان وتكرس مبدأ سيادة القانون.
مقابل مفهوم “الدولة العميقة”، يصح الحديث عن “مجتمع عميق” كذلك، وهو مصطلح أخذ يتسلل إلى الأدبيات العربية، وإن على نحو خجول، ويُقصد به المجتمعات التي ترتد إلى مكوناتها الأولية، من عرقية وطائفة ومذهبية وعشائرية، أو تلك التي تتشكل من رحمها، بيئات حاضنة للتخلف والتطرف والغلو، وتقف حجر عثرة في وجه التحديث والتمدين، وتغلق نوافذها في وجه رياح التغيير والدمقرطة، وتنبري للدفاع عن “مصالح متخيّلة” ليست في واقع الحال، سوى منافع لفئة محدودة من زعاماتها المحلية وممثليها المفروضين بقوة العادات وروابط الدم والتسلسل الهرمي المتوارث.
في جميع هذه البيئات المتفارقة، ينجح القطبان السائدان في مجتمعاتنا: “الدولة العميقة” و”الإسلام السياسي” في التكيف والتماهي، بل ونرى نجاحات هامة يسجلانها في توظيف كيانات ما قبل الحداثة وروابطها، في خدمة أهدافهما وتجديد بقائهما…وحدها القوى الرافعة للواء التحديث والتمدين والانتقال الديمقراطي، تجد نفسها في أضيق الزوايا، تتعرض لموجات متعاقبة من الاستهداف، من دون أن تقوى على شق مجرى عريض، تصب فيه مختلف روافدها وقواها.
أين اليسار من كل هذا؟
أُخذ اليسار العربي على حين غرة، بسقوط الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي…وطوال عشريتين لاحقتين لـ”الانهيار الكبير”، لم تتمكن فصائله من مراجعة أدبياتها وخطابها، ومن أجرى منها بعض المراجعات، خلص بالغالب إلى ما يمكن وصفه بـ”سلفية ماركسية”، فالأخطاء المقترفة لا تتصل بالماركسية بل بالماركسيين، والعودة إلى “صحيح النصوص” في مواجهة “تحريفية” ماوية أو ستالينية، تذكر بعودة السلفيين إلى الأدبيات المؤسسة للإسلام الأول كما يرونه، فيما ينظر إلى “الحقبة اللينينية” في التجربة السوفيتية والثورية العالمية، بذات المنظار الذي يعاين منه “السلفي” مرحلة “صدر الإسلام” والتجربة الراشدة في المدينة المنورة.
لم نر كثيراً من المراجعات الجادة لمفهومي “الدولة والثورة”، ولا وقفات أمام نمط الإنتاج الاشتراكي و”ديكتاتورية البروليتارية المتحالفة مع جموع الفلاحين”…ظلت الدولة على حالها: أداة لتنظيم سيطرة الطبقة البرجوازية، وليس أداة لاستحداث التوازن في علاقات القوى الاجتماعية، وإعادة ترميم هذا التوازن عند اختلاله…وظلت الديمقراطية والانتخابات، وسيلة البرجوازية الحاكمة لاختيار من سيُخضع الطبقة العاملة لسطوته لأربع أو خمس سنوات قادمة…وظلت “الثورات قاطرات تجر التاريخ”، تنهض على القطع والقطيعة مع الماضي، بما فيه من بنى تحتية وفوقية، فيما صيغ الحزب السياسي ظلت على جمودها “الستاليني” بوصفه “هيئة أركان الطبقة العاملة والحزب الحديدي”، من دون أن تنفتح على رياح التغيير العاصفة.
في خطابها ومبناها التنظيمي، أخفقت أحزاب اليسار العربي، في استلهام قيم الديمقراطية وتداول السلطة، ويصعب القول أن مصفوفة حقوق الانسان قد تغلغلت في خطابها، سيما حين تصبح في السلطة أو تقترب منها، أو حين تهب رياح التغيير على أنظمة “حليفة” و”صديقة” مصنفة من جانب هذه القوى، بدول مناهضة للإمبريالية، أو بلغة أيامنا “دول مقاومة وممانعة”…هنا تسقط المصفوفة بمختلف مفرداتها، ويصبح النقد لممارسات هذه الأنظمة، أو قل، جرائمها، بمثابة اجتياز للخطوط الحمراء، يستحق من يقدم عليه، مختلف الاتهامات بالتفريط والخيانة والعمالة، وفي أحسن الأحوال: بالليبرالية وثوراتها الملونة المشبوهة.
كان طبيعياً والحالة كهذه، أن تحل أحزب اليسار في ذيل قائمة الأحزاب الأكثر التزاماً بقواعد الديمقراطية في حياة الحزب الداخلية، بل وأن تتفوق عليها بفوارق كبيرة، أحزاب الإسلام السياسي على تنوعاتها، فلولا “العناية الإلهية” لما حدث تجديد في هياكل الأحزاب اليسارية القيادة، وثمة أمناء عامون لهذه الأحزاب قضوا عقوداً في مواقعهم، تزيد عن نصف قرن في بعض الأحيان، وثمة إخفاق في اجتذاب الشباب إلى صفوف اليسار، بسبب قيود العضوية وصرامتها والهياكل المتكلسة للبنى الحزبية، وثمة آليات غير ديمقراطية، في تجديد القيادة واختيار مرشحي الحزب لتولي الشأن العام.
لم يدخل “المجتمع المدني” في صميم البنية الفكرية لليسار العربي، الذي انقسم بدوره إلى مدارس ومذاهب في النظر لهذا اللاعب الجديد على مسرح السياسات العربية المحلية، منه من احتفظ بنظرة شك وريبة واتهام لهذا المجتمع، ومنهم من تعامل معه بزبائنية واضحة، وفريق ثالث، كان أكثر براغماتية: نلتقي مع من يلتقي معنا من مؤسساته، أو بمقدوره توفير خدمات مباشرة أو غير مباشرة لحزبنا أو فصيلنا.
وساعدت مظاهر الفساد والفرقة واتباع أجندات المانحين وأولوياتهم، التي سادت في كثيرٍ من أوساط المجتمع المدني ومنظماته، على إبقاء فجوة الثقة بين اليسار وهذه المؤسسات، وعطلت فرص التحالف والتعاون في إطار وطني أكثر اتساعاً…هنا المسؤولية لا تقع على كاهل اليسار وحده، مؤسسات المجتمع ومنظماته غير الحكومية، تتحمل بدورها قسطاً وافراً من المسؤولية، ولذلك بحث آخر، لا متسع له الآن.
والملاحظ أن الأحزاب اليسارية التي لا تلتزم اليوم “بالمسطرة الماركسية اللينية” بحرفيتها، فعلت ذلك تحت ضغط “الحياة اليومية”، ومن دون تأصيل أو تعميق من طبيعة فكرية ونظرية، تضمن تجذير مواقفها وممارساتها المستجدة، لذلك نراها تتذبذب وفقاً لتغيرات الحال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي حين تفترق في اطروحاتها عمّا هو قائم ومعمول به في بقايا دول المعسكر الاشتراكي في آسيا وأمريكا اللاتينية، فإنها غالباً، ما تضرب صفحاً عن أخطاء وخطايا حكومات تلك البلدان، ولا تسعى أبداً لمناقشة تجربتها.
قاد هذا الجمود إلى رسم مآلات صعبة لتيارات اليسار العربي خلال العقود الثلاثة الفائتة…فمنها من رأى في “الإسلام السياسي” الصاعد، حليفاً يمكن توليه زمام القيادة وراياتها، سيما تلك التيارات “المقاومة” منها، مستفيداً من حالة الافتراق بين القوى الإسلامية والغرب عموماً بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي…ومنها من صدمه صعود الإسلام السياسي المتزامن مع غياب الظهير و”الصديق الصدوق” في موسكو، فآثر تحت شعارات محاربة التخلف والتطرف والرجعية، الانضواء تحت رايات “الدولة العميقة”، وأحسب أن تياراً ثالثاً حافظ على “يساريته” وحاول صبغها بألوان ديمقراطية وليبرالية، أو بصبغة ديمقراطية اجتماعية…فيما أغلق تيار رابع الأبواب والنوافذ على نفسه، وظل على اطروحات الستينات والسبعينات من القرن الفائت، كأن خبر سقوط الشيوعية، لم يصل إلى مسامعه إلى يومنا الحاضر.
ولقد رأينا قادة يساريين كبار، يعرضون خدماتها “المُقدّرة”، وخبراتهم المتوارثة عن سنين طوال في العمل السياسي والفكري، لكلا القطبين المتحكمين بمسار الصراعات السياسية والاجتماعية، أو يتوزعون خلف زعماء الحرب وأمراء الطوائف والأقوام في بلدانهم، وانزوى آخرون على هوامش الخرائط السياسية والحزبية في مجتمعاتهم.
لقد ضعف اليسار كثيراً، ولم يعد لاعباً رئيساً في معظم، إن لم نقل جميع دولنا ومجتمعاتنا…وفي استعراض أجري في مختتم العشرية الأولى من القرن العشرين لنتائج الانتخابات في العالم العربي، لم تحظ قوى اليسار العربي على أزيد من 4-8 بالمئة من أصوات الناخبين…وفي مختتم العشرية الثانية، عشرية الربيع العربي، سجل اليسار مزيداً من التراجع، وباتت أحزابه تسمى أحزاب “الكسور العشرية”، مع أن الفرصة كانت متاحة أمامه – موضوعياً على الأقل – لإعادة ترميم صورته ودوره وحضوره.
هل ثمة حاجة موضوعية لليسار؟
سؤال يتردد دائماً في سياق البحث عن “قطب ثالث”، ولم يعد نابعاً كما من قبل، من الحاجة لمُخلّص للطبقة العاملة من عذاباتها، أو لانبهار بأنماط الإنتاج الاشتراكية والشيوعية، أو من منطلق “النوستالجيا” لزمن قديم غابر…وفي ظني أن ثمة حاجة موضوعية ليسار عربي جديد، ينكب على بلورة “قطب ثالث” بات وجوده شرطاً ضرورياً لتفكيك عقد الاستعصاء الديمقراطي في العالم العربي…يسار يتخفف من القيد الإيديولوجي الثقيل لـ “تعاليم” ماركس وإنجلز، وبالأخص لينين، متحرر من “الدوغمائية العقائدية”، شديد القناعة بالديمقراطية وحقوق الانسان، مؤمن بالمواطنة العابر للمكونات والطبقات، مؤمن بالدولة ومؤسساتها وسيادة القانون، لا مستعجلاً لإنهاء وظيفة الدولة التاريخية على طريق اضمحلالها…يسار مشبّع بقيم العدالة الاجتماعية، وحساس للتداعيات الاجتماعية لأي مسار اقتصادي إصلاحي، بالذات إن كان بقيادة المدارس الأكثر توحشاً من الليبرالية المعاصرة…يسار منفتح على الأشكال المرنة من التنظيم، ومندمج بالحراكات الشعبية والشبابية، بدل التعالي عليها…يسار يعرف كيف يبني تحالفاته، بعيداً عن “الطهرانية الثورية”، التي تُخفي وراءها أعمق النزعات الأنانية، يسار يعيد تجديد قواعده النقابية والعمالية والشبابية والطلابية والنسائية بعيداً عن نزعات الاستئثار والهيمنة…يسار يشق طريقه باستقلالية بين قطبي الاستعصاء الديمقراطي: الدولة العميقة والإسلام السياسي…يسار ديمقراطي – اجتماعي في جوهره، يتطلع بوعي وبصيرة، لمؤشرات التنمية والسعادة والسلم الاجتماعي في الدول الرأسمالية، التي أفلتت من براثن الليبرالية المتوحشة ونظريات السوق المتفلتة، و”إجماع واشنطن” و”إجماع واشنطن بلس”…يسار يقطع مع حنين زائف لدولة القطاع العام الريعية – الرعوية، ويسعى جاهداً في المقابل، لخلق منظومات وشبكات أمان اجتماعية وصحية وتعليمية…يسار يشجع القطاع الخاص على الإنتاج والابتكار وتوفير فرص العمل، من دون أن يطلق له العنان في الجشع والاستئثار والاحتكار، ويستخدم برشد، أدوات الدولة المالية والضريبية لإعادة توزيع الدخل والثروة بعدالة بين المواطنين.
يسار غير مصاب بمتلازمة “المعايير المزدوجة” في النظر لقضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، أياً كانت الحجة أو الذريعة، فمن لا يمتلك حريته في مقاومة الظلم الداخلي والخارجي، لا يمكن له أن ينتصر في معركة الحرية والتحرر، وشعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، الذي يناظره هذه الأيام شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة”، أبقانا بلا معركة ولا مقاومة في نهاية المطاف…يسار لا يترك راية “التحرر الوطني”، لقوى الإسلام السياسي، إذ من المؤسف أن تنتهي قضية تصفية الاستعمار ومقاومة الاحتلال ومحاربة العنصرية، إلى أيادي قوى لم تكن يوماً مبادرة لرفع هذه الرايات، وأن يتخلى اليسار عن ريادته التاريخية على هذه المضامير.
الطريق لاسترجاع دور اليسار واستنهاضه، ما زالت طويلة وشاقة، تماماً مثلما هي الطريق لبلورة “قطب ثالث” في دولنا ومجتمعاتنا العربية، وإلى أن يحدث ذلك، فإن من المرجح أن يتفاقم “الاستعصاء الديمقراطي” في بلداننا، وأن تتناسل حروب الإلغاء والإقصاء، وأن تواجه شعوبنا دورات متكررة من التقدم والتراجع على طريق استرداد حريتها وتحررها.