ثمة ما يغري للمقارنة بين الحدثين (الكرامة وسيف القدس)، وسلوك الفصيلين الفلسطينيين الكبريين حيال منظمة التحرير إثرهما، برغم فارق الزمن الممتد لأكثر من خمسة عقود…في آذار 1968، وبخلاف ما ذهب إليه اليسار الفلسطيني من التزام حرفي بـ «دليل حرب العصابات الشعبية طويلة الأمد»، قرر الراحل ياسر عرفات، خوض معركة الكرامة، وجهاً لوجه مع الإسرائيليين، خسرت فتح مئة شهيد، وكسبت عشرات ألوف المتطوعين في اليوم التالي، فكانت الانطلاقة الثانية (الحقيقية) للثورة الفلسطينية، التي ستُغري عرفات لاقتحام منظمة التحرير التي لم يكن قد مرّ على ولادتها من الخاصرة العربية سوى أربع سنوات، وليخوض بعدها معركة «الشرعية» و»الممثل الوحيد»، وكان له ما أراد.
الشيء ذاته، مع اختلاف الظرف والسياق حصل بالنسبة لحركة حماس، حين أقدم إسماعيل هنية إلى طرح شعار «الربط الهوياتي» بين القدس وغزة، فتقرر الحركة إشهار السيف انتصاراً للقدس، برغم الشكوك التي أحاطت بموقفها وبقدرتها على الإقدام على خطوة بهذه الجرأة…خسرت حماس تسعين شهيداً من مقاتليها ومقاتلي فصائل حليفة في أقل من عشرة أيام، بيد أنها بعد «سيف القدس» ستنتقل من هامش القرار الفلسطيني إلى مركزه، وستحظى بشعبية نادرة، يمكن عدّها انطلاقة ثانية للحركة، ولتدشن فصلٍاً جديداً في علاقاتها الإقليمية والدولية، وليبدأ الفلسطينيون بالنظر إليها بوصفها الجهة الأجدر بتمثيلهم.
مبادرة حماس الأخيرة، بخصوص منظمة التحرير، وقيادتها المؤقتة ومجلسها الوطني الانتقالي (عامين)، واندماجها والجهاد الإسلامي فيها، من دون التطرق لبقية قضايا الخلاف على الساحة الفلسطينية، تشبه إلى حد كبير، اقتحام فتح لمنظمة قبل نصف قرن…ومثلما قيل أن فتح كانت محقّة في الكرامة، كما في الانضواء تحت مظلة المنظمة، يمكن قول شيئاً مماثلاً حول حق حماس في الاندماج بالمنظمة، وبنسبة تليق بحجمها وتمثيلها داخل المجتمع الفلسطيني…ومثلما أن التاريخ لم يرحم اليسار على خطأ قارفه وظل يلقي بظلاله عليه حتى اليوم، فإن التاريخ ذاته، لن يرحم فتح عن «قعودها» إبّان انتفاضة القدس وسيفها، بل وانعدام مبادرتها، منذ أن تحولت إلى سلطة بلا سلطة.
لكن «الحق» الذي كان مضموناً لفتح سابقاً ولحماس لاحقا، يولّد «واجباً» على الفصيلين المذكورين…وهنا لن ندّعي الحكمة بأثر رجعي، ولكن مثلما كانت فتح مسؤولة عن استنهاض الحركة والكيانية والهوية الفلسطينية وأطرتها في «الممثل الشرعي الوحيد»، فإنها بالقدر ذاته، مسؤولة عن تآكل المنظمة وتراجع دورها ومكانتها في أوساط شعبها، بل وابتلاعها من قبل ابنتها الشوهاء: السلطة…الشيء ذاته، سنقوله لحماس، وإن بأثر «تقدمي» هذه المرة…على حماس أن تدرك أن الرد على هيمنة لا يكون بفرض هيمنة مقابلة، وأن منطق الاستحواذ قاد فتح والمنظمة، إلى ما قادهما إليه، وأن على الحركة أن تدرس أوجه الاختلاف بين وضعنا قبل نصف قرن، وكيف أمكن قيادة الدمج بين المنظمة والفصائل بأقل كلفة ممكنة، وبأعلى العوائد على شعبنا، فيما المشهد الإقليمي والدولي يقول شيئاً مغايراً اليوم: استحواذ حماس، سينعكس وبالاً على الشعب، فلا بيئة إقليمية أو دولية تقبل بذلك وتسمح به، ومن الأفضل لحماس والمنظمة والشعب الفلسطيني، سلوك طريق التوافقات الوطنية، مع أنها شائكة، مديدة ومريرة، ومن واجب حماس، أن تنظر لمبادرتها بعين وطنية أوسع بكثير، من أية حسابات فصائلية ومكاسب آنية…الحق مع حماس في أن ترى نفسها على رأس الحركة الوطنية الفلسطينية، ومن واجبها كذلك، أن ترى ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لشعبها وقضيته ومستقبل مشروعه الوطني، إن لم تراع شروط البيئة الإقليمية والدولية من حولها.